كلمة قداسة البابا فرنسيس
إلى الكوريا الرومانية
بمناسبة عيد الميلاد
السبت 21 ديسمبر / كانون الأول 2019
"الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ" (يو 1، 14).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
أرحّب بكم جميعًا ترحيبًا حارًّا. أشكر الكاردينال أنجيلو سودانو على الكلمات التي وجّهها إليّ، وأودّ خاصّة أن أعرب عن امتناني، نيابةً عن أعضاء مجلس الكرادلة، على الخدمة القيّمة والدقيقة التي قام بها بصفته عميدًا، لسنوات عديدة، بكل استعداد وتفاني وكفاءة ومهارات تنظيمية وتنسيقية عظيمة. لكم خالص الشكر، صاحب النيافة! والآن على الكرادلة أن ينتخبوا عميدًا جديدًا؛ وآمل أن يختاروا شخصًا يتفرّغ بالكامل لهذا العمل المهمّ للغاية. شكرًا.
أتمنّى لكم جميعا أنتم الحاضرين هنا، ولمعاونيكم، ولجميع الأشخاص الذين يخدمون في الكوريا الرومانية، وللسفراء البابويين أيضًا والذين يعاونوهم، عيدَ ميلاد مجيد وسعيد. وأضيف على تمنياتي، الشكر على التفاني اليوميّ الذي تقدّمونه في خدمة الكنيسة. شكرًا جزيلًا!
يتيح لنا الربّ الفرصة، هذا العام أيضًا، أن نعيش هذا اللقاء بروح الشركة الكنسية. فهذا اللقاء يقوّي الأخوّة التي تجمعنا ويتجذّر في التأمّل بمحبّة الله التي تجلّت في الميلاد. في الواقع، "إن ميلاد المسيح -كتب أحد الصوفيّين في عصرنا- هو أقوى وأبلغ شهادة عن مدى حبّ الله للإنسان. فقد أحبّه حبًّا شخصيًّا. ولهذا السبب اتّخذ جسدًا بشريًا واتّحد به وتبنّاه إلى الأبد. إن ولادة المسيح هي نفسها "عهد الحب" الموثق إلى الأبد بين الله والإنسان"[1]. كتب أيضًا القدّيس إكليمندس الإسكندري: "لهذا السبب نزل [المسيح]، ولهذا السبب تجسّد، ولهذا السبب عانى طوعًا آلام البشرية، كيما، بعد أن قاس نفسه بضعفنا الذي كان يحبّه، يستطيع في المقابل، أن يقيسنا بقوّته"[2].
إن تبادل تحيّات عيد الميلاد، أمام هذا الكم الهائل من الرفق ومن الحبّ، هو أيضًا مناسبة لقبول وصيّته مجددًا: "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضًا بَعَضُكم بَعْضًا. إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يو 13، 34- 35). هنا، في الواقع، لا يطلب منّا يسوع أن نحبّه كردّ على حبّه لنا؛ بل يطلب منّا أن نحبّ بعضنا البعض بنفس الحبّ الذي أحبّنا هو به. يطلب منّا، بتعبير آخر، أن نتمثّل به، لأنه صار مثلنا. علينا أن نزداد بالتالي في عيد الميلاد، -يحثنا القدّيس الكاردينال نيومان-، "تشبّهًا بالذي، في هذا الوقت، صار طفلًا حبًّا بنا؛ وأن نزداد في كلّ عيد ميلاد جديد بساطةً، وتواضعًا، وقداسةً، ومحبةً، واستسلامًا لله، وفرحًا، وامتلاء بالله"[3]. ويضيف: "هذا هو وقت البراءة، والنقاء، واللطف، والفرح والسلام"[4].
يذكّرنا اسم نيومان أيضًا بتأكيده المعروف، وهو تقريبًا قول مأثور، نجده في كتابه تطور العقيدة المسيحية، الذي يقع تاريخيًّا وروحيًّا عند مفترق دخوله الكنيسة الكاثوليكية. يقول: "إن نعيش هنا على الأرض يعني أن نتغيّر، والكمال هو نتيجة العديد من التغيّرات"[5]. من الواضح أن الأمر لا يتعلق بالبحث عن التغيير من أجل التغيير، أو من أجل اتّباع الموضة، بل أن نكون مقتنعين أن التنمية والنموّ هما سمة من سمات الحياة الأرضية والإنسانية، فيما أن محور كلّ شيء، في منظور المؤمن، هو استقرار الله[6].
إن التغيير بالنسبة إلى نيومان، هو توبة، أي تحوّل داخليّ[7]. فالحياة المسيحيّة في الواقع، هي مسيرة، هي حجّ. القصّة الكتابية هي مسيرة، تتميّز ببدايات وباستئناف؛ مثل إبراهيم. مثل أولئك الذين، منذ ألفي سنة في الجليل، اتّبعوا يسوع: "رَجَعوا بِالسَّفينَتَينِ إِلى البَرّ، وتَركوا كُلَّ شَيءٍ وتَبِعوه" (لو 5، 11). منذ ذلك الحين، يتّسم تاريخ شعب الله -تاريخ الكنيسة- دائمًا بالانطلاق والتنقّل والتغييرات. بالتأكيد المسيرة ليست جغرافية بحتة، ولكنها أوّلًا رمزية: إنها دعوة لاكتشاف حركة القلب الذي، من قبيل المفارقة، يحتاج إلى أن ينطلق كي يستطيع البقاء، وإلى التغيير كي يكون أمينًا[8].
كل هذا يتمتّع بقيمة خاصّة في عصرنا، لأن ما نشهده ليس مجرّد عصر تغييرات، إنما هو تغييرٌ في العصر. نحن، إذًا، نعيش إحدى تلك اللحظات التي لم تعد فيها التغييرات بسيطة، بل تاريخية؛ إنها تشكّل خيارات تُحوِّل بسرعة طريقة العيش، والعلاقات، والتواصل، ومعالجة الفكر، تفاعل مختلف الأجيال البشرية، وفهم الإيمان والعلم وعيشهما. لكننا غالبًا ما نعيش التغيير عبر ارتداء حلّة جديدة، ثم نبقى في الواقع كما كنّا من قبل. أتذكّر التعبير الطريف الذي نقرأه في رواية إيطالية شهيرة: "إذا كنا نريد أن يبقى كلّ شيء كما هو، فيجب أن يتغيّر كلّ شيء" (في النمر بقلم جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا).
الموقف السليم هو أن نتساءل عن تحدّيات الوقت الحالي وأن نواجهها بفضائل التمييز والوضوح والمثابرة. فيتّخذ التغيير، في هذه الحالة، شكلًا مختلفًا تمامًا: يتحوّل من عنصر ثانوي، أو يتعلق بالسياق أو ذريعة، أو خارجي ... إلى واقع يزداد إنسانيّة، وحتى مسيحيّة. سوف يكون دائمًا تغييرًا خارجيًّا، ولكنه يتحقّق انطلاقًا من محور الإنسان نفسه، أي تحوّل أنثروبولوجي[9].
علينا أن نُطلِق مسارات، لا أن نشغل المساحات: فالله "يتجلّى عبر ظهوره في التاريخ، في الزمن. الزمن يُطلق المسارات، والمساحات تبلورها. والله نجده في الزمن، وفي المسارات الجارية. لا يجب أن نميّز مساحات القوّة عن أزمنة المسارات، حتى وإن طالت. علينا أن نطلق مسارات بدلًا من أن نشغل المساحات. فالله يتجلّى في الزمن وهو موجود في مسارات التاريخ. وهذا يعطي الأولوية للإجراءات التي تولّد ديناميكيات جديدة. ويتطلّب الصبر والانتظار"[10]. وهذا يحثّنا على قراءة علامات الزمن بعيون الإيمان، كيما "يوقظ الاتّجاهُ الذي يتّخذه هذا التغيير الأسئلةَ الجديدةَ والقديمة التي من المناسب والضروري مواجهتها"[11].
في معرض حديثي اليوم عن موضوع التغيير الذي يستند أساسًا إلى الأمانة لوديعة الإيمان والتقليد، أودّ العودة إلى إصلاح الكوريا الرومانية الجاري، مجدّدًا بالتأكيد على أن هذا الإصلاح لم يزعم أن قبله لم يكن شيئا؛ بل إنه، على العكس، يهدف إلى تعزيز كلّ ما تحقّق من صالحٍ في تاريخ الكوريا المعقّد. من الواجب تعزيز التاريخ من أجل بناء مستقبل يقوم على أسس متينة، وله جذور، ومن ثمّ باستطاعته أن يكون مثمرًا. فاستحضار الذاكرة لا يعني التحجر في الحفاظ على الذات، إنما يعني الدخول في عملية استدعاء للحياة ولحيوية مسار في تطوّر مستمرّ. الذاكرة ليست جامدة، بل ديناميكية. وتعني، بحكم طبيعتها، الحركة. والتقليد ليس جامدًا، بل ديناميكيًّا، كما كان يقول الرجل العظيم [ج. ماهلير، مستخدمًا استعارة تعود إلى جان جوريس]: التقليد هو ضمانة المستقبل، لا حارس رماد.
أيها الإخوة والأخوات،
لقد حدّثتكم في لقاءاتنا السابقة بمناسبة عيد الميلاد، عن المعايير التي ألهمت هذا العمل الإصلاحي. وقد حفزت أيضًا بعض التطبيقات التي تمّ تنفيذها، سواء بشكل نهائي أو تجريبي[12]. وقد سلّطت الضوء عام 2017، على بعض التجديدات التي تم إدخالها في التنظيم داخل الكوريا، مثل القسم الثالث من أمانة سرّ الكرسي الرسولي، والذي يسير على ما يرام، على سبيل المثال؛ أو العلاقات بين الكوريا الرومانية وبعض الكنائس الخاصّة، مذكّرًا أيضًا بتقليد زيارة الأعتاب الرسولية والتي هي ممارسة قديمة؛ أو هيكلية بعض الدوائر الفاتيكانية، ولا سيما مجمع الكنائس الشرقية والمجالس الخاصة بالحوار المسكوني وحوار الأديان، ولا سيّما مع الدين اليهودي.
أودّ في لقاء اليوم، أن أتناول بعض الدوائر الأخرى، انطلاقًا من محور الإصلاح، أي من الرسالة الأولى والأهم للكنيسة: حمل البشارة إلى العالم. فقد أكّد القدّيس بولس السادس: "إن حمل البشارة إلى العالم هو النعمة والدعوة الخاصة للكنيسة، هو هويتها الأعمق. فهي موجودة كي تبشّر بالإنجيل"[13]. إن إعلان الإنجيل، الذي ما زال يُعتبر اليوم الوثيقة الرعوية الأهمّ مما صدر بعد المجمع، هو حاليّ. في الواقع، إن هدف الإصلاح الحالي هو أن "تصبح العادات والأنماط والجداول واللغة وكلّ بنية كنسيّة قناة صالحة لتبشير عالم اليوم بالإنجيل، أكثر منه السعي إلى الحفاظ على الذات. لا يمكن فهم إصلاح الهيكليات، الذي يتطلّب الارتداد الرعوي، إلّا بهذا المعنى: العمل على أن تصبح جميعها أكثر إرساليّة" (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 27). وبالتالي، استوحينا من تعليم خلفاء بطرس، منذ المجمع الفاتيكاني الثاني وحتى اليوم، فقرّرنا اقتراح عنوان "أعلنوا البشارة" للدستور الرسولي الجديد الذي سوف يُنشر حول إصلاح الكوريا الرومانية. أي الموقف الإرسالي.
ولهذا السبب يذهب فكري اليوم إلى بعض دوائر الكوريا الرومانية التي تشير بوضوح إلى كلّ هذا عبر اسمها: مجمع العقيدة والإيمان، مجمع تبشير الشعوب؛ ولكني أفكّر أيضًا في دائرة الاتصالات والدائرة المعنية بخدمة التنمية البشرية المتكاملة.
عندما تمّ تأسيس المجمعين الأوّلين المذكورين أعلاه، تم ذلك في عصر كان من الأسهل فيه التمييز بين وجهين واضحين إلى حدّ ما: العالم المسيحي من جهة والعالم الذي يجهل بشارة الإنجيل من جهة أخرى. أمّا الآن فهذا الوضع لم يعد موجودًا. السكان الذين لم تصلهم بعد بشارة الإنجيل لا يعيشون إطلاقًا خارج القارات الغربية فحسب، بل يسكنون في كلّ مكان، ولا سيّما في التجمّعات الحضرية التي تتطلّب رعوية خاصّة. إننا نحتاج في المدن الكبرى إلى "خرائط" أخرى، ونماذج أخرى، تساعدنا على إعادة تحديد طرق تفكيرنا ومواقفنا: أيها الإخوة والأخوات، لم نعد في عالمٍ مسيحيّ، لم نعد بعد! لم نعد اليوم الوحيدين الذين "ينتجون" الثقافة، ولسنا الأوّلين، ولسنا مَن يحظى بإصغاء العالم أكثر[14]. لذلك نحن بحاجة إلى تغيير العقلية الرعوية، وهذا لا يعني الانتقال إلى رعوية نسبية. لم نعد في نظام عالم مسيحيّ لأن الإيمان -خاصة في أوروبا، ولكن أيضًا في معظم دول الغرب- لم يعد افتراضًا واضحًا للحياة المشتركة، لا بل غالبًا ما يتم نكرانه ويكون موضوع سخرية وتهميش واحتقار. هذا ما أكّده بندكتس السادس عشر عندما أعلن "عام الإيمان" (2012) وكتب: "في حين كان من الممكن في الماضي رؤية نسيج ثقافي وحدوي، مقبول على نطاق واسع في إشارته إلى محتويات الإيمان والقيم المستوحاة منه، لا يبدو الأمر اليوم كذلك في قطاعات كبيرة من المجتمع، بسبب أزمة الإيمان العميقة التي طالت الكثير من الناس"[15]. ولهذا تمّ تأسيس المجلس الحبري لتعزيز التبشير الجديد في عام 2010، من أجل "تعزيز تبشير متجدّد في البلدان التي شهدت سابقًا إعلًانا أوّلًا للإيمان وفيها كنائس قديمة التأسيس، ولكنها تشهد علمنةً تدريجيةً للمجتمع ونوعًا من "كسوف لحسّ الله"، والتي تشكل تحدّيا لإيجاد الوسائل المناسبة لإعادة اقتراح حقيقة إنجيل المسيح الدائمة"[16]. لقد فاتحتُ بعضًا منكم بهذا الموضوع... أفكّر في خمسة بلدان غمروا العالم بالمرسلين –وقد قلت لكم من هي هذه البلدان- وليس لديهم اليوم الدعوات الكافية للمضيّ قدمًا. هذا هو العالم الحاليّ.
لم نصّل فجأة، في الواقع، إلى الإدراك بأن تغيير الحقبة يطرح أسئلة جدّية حول هويّة إيماننا[17]. ويدخل في هذا الإطار، التعبير "التبشير الجديد" الذي تبنّاه القدّيس يوحنا بولس الثاني، الذي كتب في الرسالة العامة رسالة الفادي: "على الكنيسة أن تواجه اليوم تحدّيات أخرى، في مسيرتها نحو حدود جديدة إن بالنسبة إلى الإرساليات الأولى إلى الأمم أو بالنسبة إلى إعلان البشارة وسط شعوب قد قبلت بشرى المسيح" (عدد 30). هناك حاجة إلى إعلان جديد للبشارة، أو إلى إعادة إعلان البشارة (را. عدد 33).
إن كلّ هذا يتضمّن بالضرورة تغييرات واهتمام متجدّد في الدوائر المذكورة أعلاه أيضًا، وكذلك في الكوريا بأكملها[18].
أودّ أيضًا أن أخصّص دائرة الاتّصالات، التي أسّست مؤخّرًا، ببعض الاعتبارات. نحن في منظور تغيير عصريّ، لأن البيئة الرقميّة "تغمر قطاعات واسعة من الإنسانية بطريقة عاديّة ومستمرّة. وهي ليست مجرّد "استخدام" لوسائل الاتّصال، بل عيش في ثقافة أصبحت بمعظمها رقميّة، وهي تؤثّر بشكل عميق على مفهوم الزمان والمكان، وعلى فهمنا الذاتيّ، وفهمنا للآخرين وللعالم، وطريقتنا بالتواصل والتعلم والاستعلام والدخول في علاقة مع الآخرين. إنها مقاربة للواقع تعطي الأولويّة للصور قبل الاصغاء والقراءة، وأثّرت في طريقة تعلّم الناس وتنمية حسّهم النقدي" (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا، 86).
لذلك، عُهد إلى دائرة الاتّصالات بمهمّة جمع -في مؤسّسة جديدة- المؤسّسات التسع التي سبق لها أن عملت بمجال الاتّصالات بطرق مختلفة وبمهامّ مختلفة، وهي: المجلس البابوي للاتصالات الاجتماعية، وغرفة الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، والفاتيكان بريسّ، ودار النشر الفاتيكاني، والأوسّرفاتوري رومانو، وراديو الفاتيكان، ومركز تلفزيون الفاتيكان، وخدمة الإنترنت في الفاتيكان، وخدمة التصوير الفوتوغرافي. ولكن هذا الدمج، تماشيًا مع ما ورد أعلاه، ليس مجرّد توحيد "للتنسيق"، إنما تناسق بين مختلف المكوّنات، يهدف إلى تحسين الخدمات وإلى الحفاظ على خطّ متناسق في المنشورات.
إن الثقافة الجديدة، التي تتميّز بعوامل التقارب وباستخدام وسائل الاعلام، تحتاج إلى تفاعل مناسب من قبل الكرسي الرسولي في مجال الاتّصالات. فاليوم، بالنسبة للخدمات المتنوّعة، يسود استخدام وسائل الاعلام، وهذا يؤثّر كذلك على طريقة تصوّرها والتفكير فيها وتنفيذها. كلّ هذا يعني، إلى جانب التغيير الثقافي، ارتداد مؤسّسيّ وشخصيً، للانتقال من طريقة عملٍ استقلالية –تضمّنت في أفضل الحالات بعض التنسيق- إلى عمل متّصل ومتآزر جوهريًّا.
أيها الإخوة والأخوات،
إن العديد من الأشياء التي ذكرتها حتى الآن تتطبق أيضًا، من حيث المبدأ، على دائرة خدمة التنمية البشرية المتكاملة. لقد تأسّس مؤخّرًا من أجل التفاعل مع التغيرات العالمية، ودمج أربعة مجالس حبرية سابقة: المجلس الحبري للعدالة والسلام، المجلس الحبري للتنمية البشرية والمسيحية، المجلس البابوي للرعاية الرعوية للمهاجرين والمتجولين، والمجلس الحبري للمساعدة الرعوية للعاملين في مجال الرعاية الصحية. أمّا تناسق المهام الموكلة إلى هذه الدائرة فقد ذكّرت بها بإيجاز في مقدمّة البراءةُ البابوية التنمية البشرية التي أنشأته: "إن الكنيسة، بكلّ كيانها وأعمالها، هي مدعوة إلى تعزيز تنمية الإنسان المتكاملة على ضوء الإنجيل. تنمية تتحقق من خلال الاهتمام بالعدالة والسلام والحفاظ على الخليقة". وهذا يتحقّق عبر خدمة الضعفاء والمهمّشين، ولا سيما المهاجرين القسريين، الذين هم، في وقتنا هذا، يمثلون صرخة في صحراء إنسانيتنا. لذلك، فإن الكنيسة مدعوّة لأن تذكّر الجميع بأنها ليست مجرّد مسألة قضايا اجتماعية أو مسألة هجرة، بل هي مسألة أشخاص وإخوة وأخوات هم اليوم رمز لجميع المهمّشين في المجتمع المُعَولَم. إنها مدعوّة للشهادة أنه ما من أحد "أجنبيّ" أو "مستبعد" بالنسبة لله. إنها مدعوّة لإيقاظ الضمائر النائمة في اللامبالاة أمام واقع البحر الأبيض المتوسط الذي أصبح مقبرة للكثيرين.
أودّ أن أشير إلى أهمّية الطابع المتكامل للتنمية. أكّد القدّيس بولس السادس أن الترقّي "لا ينحصر في مجرّد النموّ الاقتصادي؛ فلكي يكون صحيحًا يجب أن يكون كاملاً، أي أن يشمل كلّ إنسان، والإنسان كلّه" (الرسالة العامة تقدّم الشعوب، 14). بعبارة أخرى، لقد أكّدت الكنيسة، المرسّخة في تقاليدها الإيمانية، في العقود الأخيرة، مستندة إلى تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، عظمة دعوة جميع البشر، الذين خلقهم الله على صورته ومثاله كي يكونوا عائلة واحدة؛ وحاولت في الوقت نفسه أن تعانق الإنسان بكلّ أبعاده.
إن هذه الحاجة إلى التكامل هي التي تقترح علينا مجدّدًا اليوم الإنسانيةَ التي توحّدنا كأبناء لآب أوحد. "إن الكنيسة، بكلّ كيانها وأعمالها، هي مدعوّة إلى تعزيز التنمية البشرية المتكاملة على ضوء الإنجيل" (البراءة البابوية التنمية البشرية). فالإنجيل يعيد دائمًا الكنيسة إلى منطق التجسّد، إلى المسيح الذي دخل تاريخنا، وتاريخ كلّ واحد منّا. هذا ما يذكّرنا به عيد الميلاد. البشرية إذًا هي ما يميّز الإصلاح. البشرية تدعو، تستحثّ وتحثّ، أي أنها تدعو إلى الخروج وعدم الخوف من التغيير.
لا يجب أن ننسى أن الطفل الذي يرقد في المذود له وجه إخوتنا وأخواتنا الأشد حاجة، والفقراء الذين هم "المتميّزون في هذا السرّ، وهم غالبًا الأكثر قدرة على إدراك حضور الله بيننا" (الرسالة الرسولية علامة رائعة، 1 ديسمبر/كانون الأوّل 2019، 6).
أيّها الإخوة والأخوات،
إنها بالتالي مسألة تحدّيات كبيرة وتوازن ضروري، غالبًا ما يصعب تحقيقها، لحقيقة بسيطة، وهي أن التوتّر الحاضر بين الماضي المجيد والمستقبل الإبداعي والمتغيّر، يتضمّن الحاضر، وفي هذا الحاضر أشخاص يحتاجون بالضرورة الى وقت كي ينضجوا. هناك ظروف تاريخيّة يجب التعاطي معها يوميًّا، لأنه وفيما الإصلاح يتحقّق، لا يتوقّف العالم ولا تتوقّف الأحداث؛ هناك قضايا قانونية ومؤسّسية تحتاج إلى حلّ تدريجي، بدون صيغ سحرية أو اختصارات.
هناك أخيرًا، البُعد الزمني وهناك الأخطاء البشرية، حيث لا يمكن أو لا يصحّ تجاهلهم لأنهم جزء من تاريخ الجميع. وعدم أخذها في الاعتبار يعني القيام بالأشياء بتجاهلٍ لتاريخ الأشخاص. وهناك خطر يرتبط دائمًا بهذه العملية التاريخية الصعبة، وهو الميل إلى الانطواء على الماضي (حتى عبر استخدام صيغ جديدة)، لأنه أكثر تطمينًا، ومعروفًا، وبالتأكيد أقلّ تعارضًا. ولكن هذا أيضًا هو جزء من عملية وخطر بدء تغييرات كبيرة[19].
من الضروريّ هنا التحذير من تجربة اتّخاذ موقف الصلابة: الصلابة التي تنتج عن الخوف من التغيير وتتوصّل إلى إعاقة الصالح العام بالحواجز والعقبات، وتجعله حقلًا لا تواصل فيه ومملوء كراهية. لنتذكّر دائمًا أن خلف كلّ تصلب يوجد بعض الخلل. فالتصلب والخلل يغذّيان بعضهما البعض في حلقة مفرغة. وقد صار اليوم هذا الميل إلى التصلب حاليًّا للغاية.
أيّها الإخوة والأخوات،
الكوريا الرومانية ليست كيانًا منفصلا عن الواقع -حتى لو كان الخطر موجودًا على الدوام- ولكن يجب أن نفهمها ونعيشها في آنيّة المسيرة التي سلكها الرجال والنساء، وفي منطق تغيير العصر. الكوريا الرومانية ليست قصرًا أو خزانة مليئة بالملابس نرتديها لتبرير التغيير. الكوريا الرومانية هي جسد حيّ، وتزداد حيوية على قدر ما تعيش أمانة الإنجيل.
قال الكاردينال مارتيني، في آخر مقابلة أجريت معه قبل أيام قليلة من وفاته، كلمات يجب أن تجعلنا نتساءل: "الكنيسة تخلفت بمائتي عام. لماذا لا تهتزّ؟ هل نحن خائفون؟ الخوف بدلًا من الشجاعة؟ لكن الإيمان هو أساس الكنيسة. الإيمان والثقة والشجاعة. [...] وحده الحبّ يتغلّب على التعب"[20].
عيد الميلاد هو عيد حبّ الله لنا: الحبّ الإلهي الذي يلهم ويرشد ويصحّح التغيير ويهزم الخوف البشري مِن تَركِ ما هو "آمن" من أجل الانطلاق مجدّدًا في "السرّ".
عيد ميلاد مجيد للجميع!
لقد استمعنا إلى خطب حول أمّ الله الكلّية القداسة استعدادًا لعيد الميلاد. لنتوجّه إليها قبل منح البركة.
[السلام عليك يا مريم والبركة]
والآن أودّ أن أقدّم لكم ذكرى وفكرة: كتابان. الأول هو "الوثيقة"، فلنسمّها كذلك، التي أردت إصدارها بمناسبة الشهر الإرسالي الاستثنائي [أكتوبر/تشرين الأوّل 2019]، وقد اتّخذت شكل مقابلة، بدونه لا نستطيع أن نفعل أي شيء. استلهمت من عبارة، لا أعرف من الذي قال ذلك، إنه عندما يصل الإرسالي إلى مكان ما، يكون الروح القدس هناك بانتظاره. هذا هو مصدر إلهام هذه الوثيقة. والثاني هو رياضة روحيّة أُعطِيَت للكهنة منذ فترة قصيرة وقد قام بها الأب لويجي ماريا إبيكوكو، وهي رياضة للكهنة، شخص ننظر إليه. أعطيكم هذين الكتابين من كلّ قلبي كي تستفيد منها كلّ الجماعة. شكرًا!
**********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
[1] متى المسكين، إنسانية الله، كيكايون-بوزي، مانيانو 2015، 170-171.
[2] الغني والخلاص 37، 1- 6.
[3] عظة التجسد، سر نعمة. عظات رعوية، 7.
[4]نفس المرجعV، 97- 98.
[5] تأملات وصلوات، بقلم جز فيلوتشي، ميلانو 2002، ص. 75.
[6]قال نيومان في إحدى صلواته: "لا شيء مستقر خارج عنك يا إلهي. أنت محور وحياة كلّ الذين يتغيّرون، والذين يثقون بك كأب لهم، والذين يتطلّعون إليك ويفرحون بتسليم ذواتهم بين يديك. أعلم يا إلهي أنه يجب عليَّ أن أتغيّر إذا أردت رؤية وجهك" (نفس المرجع، 112).
[7]يصفها نيومان على هذا النحو: "عند التوبة، لم أشعر بأيّ وعي على أيّ تغيير، فكريّ أو معنويّ، حدث في روحي ... بدا لي أنني كنت أعود إلى الميناء بعد ملاحة عاصفة؛ وفي هذا الصدد، استمرّت سعادتي بلا انقطاع حتى اليوم" (الدفاع عن حياته، بقلم أ. بوزي، تورينو 1988، 360؛ را. ج. أونوري، أمثال نيومان، درا النشر الفاتيكانية، حاضرة الفاتيكان 2010، 167).
[8] خ. م. برغوليو، رسالة الصوم إلى الكهنة والمكرسين، 21 فبراير/شباط 2007، في كلمتي في عينيك، ميلانو، 2016، ص. 501.
[9] را. الدستور الرسولي فرح الحقيقة (27 ديمبر/كانون الأول 2017)، 3: "في النهاية، إنها مسألة تغيير نموذج التنمية الشاملة وإعادة تحديد التقدم: المشكلة هي أننا لا نملك بعد الثقافة اللازمة لمواجهة هذه الأزمة، وهناك حاجة إلى بناء زعامات ترينا الطرق".
[10] مقابلة مع الأب أنطونيو سبادارو: الحضارة الكاثوليكية، 19 سبتمبر/أيلول 2013، ص. 468.
[11] رسالة إلى شعب الله الذي يسير في ألمانيا، 29 يونيو/حزيران 2019.
[12] را. كلمة البابا إلى الكوريا الرومانية، 22 ديسمبر/كانون الأول 2016.
[13] الإرشاد الرسولي إعلان الإنجيل (8 ديسمبر/كانون الأول 1975)، 14. كتب القدّيس يوحنا بولس الثاني أن إعلان رسالة التبشير "تشكل الخدمة الأولى التي يمكن الكنيسة أن تؤدّيها لكلّ إنسان وللبشرية جمعاء في عالم اليوم، هذا العالم الذي يعرف اكتشافات عجيبة، ولكنه يبدو أنه قد فقد معنى الحقائق النهائية لوجوده" (الرسالة العامة رسالة الفادي، 7 ديسمبر/كانون الأول 1990، 2).
[14] را. كلمة البابا إلى المشاركين في المؤتمر الدولي لرعوية المدن الكبيرة، قاعة المجلس، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
[15] الرسالة الرسولية تحت شكل براءة بابوية بوابة الإيمان، 2.
[16] بندكتس السادس عشر، عظة، 28 يونيو/حزيران 2010؛ را. الرسالة الرسولية تحت شكل براءة بابوية في كل مكان وزمان، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2010.
[17]شعر الكاردينال سوهارد بتغيير العصر في فرنسا (أفكر في رسالته الرعوية نمو أو تراجع الكنيسة، 1947) كما وأيضًا رئيس أساقفة ميلانو في ذلك الوقت، ج. ب. مونتيني. وتساءل هو أيضًا عما إذا كانت إيطاليا لا تزال بلدًا كاثوليكيًا (را. كلمة الكاردينال خلال الأسبوع الوطني الثامن لتحديث الرعوية، 22 سبتمبر/أيلول 1958، في كلمات وخطب في ميلانو 1954- 1963، المجلد الثاني، بريشيا - روما 1997، 2328).
[18]ذكّر القديس بولس السادس، منذ حوالي خمسين عامًا، عندما قدم كتاب القداس الروماني الجديد إلى المؤمنين، بالمعادلة بين شريعة الصلاة (lex orandi) وشريعة الإيمان (lex credendi) ووصفها بأنها "دليل على الإخلاص والحيوية". وفي ختام تفكيره أكّد: "لا نقول بالتالي قداس جديد، بل حقبة جديدة من حياة الكنيسة" (المقابلة العامة في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1969). وهذا ما يمكن أن نقوله بطريقة مماثلة في حالتنا: لا كوريا رومانية جديدة، بل حقبة جديدة.
[19] ينص فرح الإنجيل على قاعدة: "تفضيل أعمال تولد ديناميات جديدة في المجتمع، وتلزم أشخاصا وجماعات كي تطورها وتنميها، إلى أن تؤتي ثمارا بشكل أحداث تاريخية هامة، بدون قلق، لكن مع قناعات واضحة وإصرار" (عدد 223).
[20] مقابلة مع جورج سبورشيل، كاهن يسوعي، زفيديريكا راديشي فوسالي كونفالونياري: "Corriere della Sera"، 1سبتمبر/أيلول 2012.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana