إلى بودابست في مناسبة القداس الختامي للمؤتمر الإفخارستي الدولي الثاني والخمسين وإلى سلوفاكيا
كلمة قداسة البابا فرنسيس
في اللقاء مع السّلطات والمجتمع المدني والسّلك الدبّلوماسي
في حديقة القصر الرّئاسي في براتيسلافا
الاثنين 13 أيلول/سبتمبر 2021
_____________________________________
السّيّد الرئيس،
أعضاء الحكومة والسّلك الدبلوماسيّ،
السّلطات المدنيّة والدينيّة المحترمين،
سيداتي سادتي،
أشكر للرّئيسة سوزانا شابوتوفا على كلمات الترحيب التي وجّهتها إليّ، وأيضًا بالنيابة عنكم وعن الشعب. أحيّيكم جميعًا، وأعبّر لكم عن سعادتي لوجودي في سلوفاكيا. جئت حاجًّا إلى بلد شاب لكنَّ تاريخه قديم، في أرض تمتدّ جذورها العميقة في قلب أوروبّا. أنا حقًا في "أرض وسط" شهدت عابرين كثيرين. كانت هذه الأراضي حدودًا للإمبراطوريّة الرومانيّة وكانت مكانًا تفاعلت فيها المسيحيّة الغربيّة والشرقيّة، من مورافيا الكبرى إلى مملكة هنجاريا، من جمهوريّة تشيكوسلوفاكيا إلى اليوم، عرفتم بين شدائد كثيرة، أن تندمجوا وأن تتميّزوا بطريقة كانت في أساسها سلميّة: قبل ثماني وعشرين سنة، أُعجِب العالم بولادة دولتين مستقلّتين دون صراع.
هذا التاريخ يدعو سلوفاكيا إلى أن تكون رسالة سلام في قلب أوروبّا. هذا ما يوحي به الشريط الأزرق العريض في علمكم، الذي يرمز إلى الأخوّة بين الشعوب السلافيّة. نحن بحاجة إلى الأخوّة لتعزيز اندماج وتكامل ضروري بشكل متزايد. إنّه أمر مُلِحٌّ الآن، في الوقت الذي، بعد أشهر قاسية من الجائحة، وبالإضافة إلى صعوبات كثيرة، بدأت انطلاقة جديدة اقتصاديّة طال انتظارها، تسندها خطط انتعاش من قبل الاتّحاد الأوروبّي. ومع ذلك، فهناك خطر أن نترك أنفسنا ننجرف بالسرعة وبإغراء الربح، مما يؤدّي إلى نشوة عابرة، تصنع الانقسام بدل التوحيد. ثم إنّ الانتعاش الاقتصادي وحده لا يكفي في عالم نترابط فيه جميعًا، حيث نعيش جميعًا في منطقة وسط. فيما يستمر النضال من أجل السّيادة على جبهات مختلفة، ليؤكّد هذا البلد رسالته الخاصّة بالاندماج والسّلام، ولتتميّز أوروبّا بالتضامن الذي يتجاوز الحدود ويمكن أن يعيدها إلى مركز التاريخ.
يتّسم التاريخ السلوفاكي بالإيمان بشكل لا يمحى. آمل أن يساعد ذلك بطريقة طبيعيّة في تغذية مقاصد ومشاعر الأخوّة. يمكن أن تستمدُّوها من الحياة الساميّة للأخوَين القديسَين كيرلّس وميثوديوس. فقد نشرا الإنجيل عندما كان مسيحيّو القارّة متّحدين. وهما اليوم يجمعان بين طوائف هذه الأرض. عرفا أنفسهما أنّهما للجميع، وسعيا إلى الشركة مع الجميع: السّلاف واليونانيّين واللاتين. وهكذا أدّت صلابة إيمانهم إلى انفتاح عفويّ. وأنتم مدعوّون لقبول هذا التراث في هذا الوقت، لتكونوا علامةَ وَحدةٍ في هذا الزمن أيضًا.
أصدقائي الأعزّاء، لا تسمحوا بأن تغيب أبدًا من قلوبكم الدعوة إلى الأخوّة، بل فلتَبقَ دائمًا فيكم مع لطفكم الطبيعي الذي يميّزكم. أنتم تعرفون أن تولوا اهتمامًا كبيرًا للضيافة: ولقد أدهشتني الطريقة الخاصّة بكم التي تعبّر عن الضيافة السّلافية، فتقدّمون للزّائرين الخبز والملح. والآن أودّ أن أستفيد وأتحدّث عن هذه التّقادم البسيطة والثّمينة المشبعة بالإنجيل.
الخبز الذي اختاره الله ليجعل نفسه حاضرًا بيننا، هو عنصر أساسي. يدعونا الكتاب المقدّس إلى عدم تجميعه، بل إلى تقاسمه مع الغير. الخبز الذي يتحدث عنه الإنجيل هو دائمًا خبز يُكسَر. إنّه رسالة قويّة لحياتنا المشتركة: إنّه يقول لنا إنّ الغنى الحقيقي لا يقوم بتكثير ما لدينا، بل بتقاسمه بالتساوي مع من حولنا. الخبز، الذي يتكسّر يحمل فكرة الضعف، ويدعونا على وجه الخصوص إلى الاعتناء بالأضعفين. فلا نسمح بأن يتعرّض أيّ شخص للوصم والعزل أو للتفرقة. النظرة المسيحيّة لا ترى في الضعاف عبئًا أو مشكلة، بل ترى فيهم إخوة وأخوات يجب مرافقتهم وحمايتهم.
الخبز المكسور والموزع بالتساوي يشير إلى أهميّة العدل، وأهميّة إعطاء كلّ واحد الفرصة لتحقيق نفسه. يجب بذل الجهود لبناء مستقبل تُطبَّق فيه القوانين على الجميع بالتساوي، على أساس عدل لا يُباع (ولا يُشرَى) أبدًا. وحتّى لا يبقى العدل فكرة مجرّدة، بل يكون شيئًا ملموسًا مثل الخبز، يجب القيام بمكافحة جادّة للفساد، ويجب نشر الشرعيّة وتعزيزها قبل كلّ شيء.
يرتبط الخبز أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالصفة: اليوميّ (راجع متى 6، 11)، خبز يوميّ. خبز كلّ يوم هو العمل الذي يشغل معظم النهار. كما أنّه لا يوجد غذاء بدون خبز، لا توجد كرامة بدون عمل. في أساس مجتمع عادل وأخويّ، يوجد الحقّ في أن يحصل كلّ واحد على خبز العمل، حتى لا يشعر أحد بالتهميش ولا يضطر إلى ترك عائلته وأرضه الأصليّة بحثًا عن مال أكثر.
"أنتم ملح الأرض" (متى 5، 13). الملح هو أوّل رمز يستخدمه يسوع في تعليم تلاميذه. إنّه، قبل كلّ شيء، يعطي طعمًا للطعام، ويدعو إلى التفكير في النكهة التي بدونها تظلّ الحياة بلا طعم. في الواقع، لا تكفي هيكليّات منظمة وفعّالة حتى يكون عيش الناس معًا جيدًا. نحن بحاجة إلى نكهة، نحتاج إلى نكهة التضامن. ومثلما يُعطي الملح نكهة فقط عندما يذوب. كذلك يستعيد المجتمع معنى الحياة من خلال العطاء المجاني من الذين يبذلون أنفسهم من أجل الآخرين. من الجميل أن يجد الشباب، على وجه الخصوص، ما يدفعهم إلى ذلك، حتّى يشعروا بأنّهم هم الذين يصنعون مستقبل بلدهم، فيتمسّكون به، ويُغْنون، بأحلامهم وإبداعهم، التاريخ الذي سبقهم. لا يوجد تجديد بدون شباب. لكنّهم ينخدعون مرارًا بروح استهلاكيّة تحمل الموت إلى الحياة. كثيرون، كثيرون جدًا في أوروبّا يجُرُّون أنفسهم متعبين ومحبطين، ومتوتّرين بسبب نمط الحياة المحمومة، ولا يرون أين يجدون الحوافز والأمل. العنصر المفقود هو الاهتمام بالآخرين. الشّعور بالمسؤوليّة تجاه شخص ما يعطي الحياة طعمًا، وبه نكتشف أنّ ما نعطيه، إنّما نعطيه في الواقع لأنفسنا.
الملح في زمن المسيح، بالإضافة إلى أنّه يعطي طعمًا، كان يُستخدم لحفظ الطعام وحمايته من التعفُّن. أتمنى لكم ألّا تدَعو سطحيّة الاستهلاك والكسب المادي يدمِّر النكهات العطرة لأفضل تقاليدكم. ولا الاستعمار الأيديولوجي. في هذه الأراضي، إلى ما قبل عقود قليلة خلت، كان هناك فكر واحد يمنع الحريّة. واليوم، هناك فكر واحد آخر يفرِّغها من معناها، بالعودة إلى اعتبار يقول إنّ التقدّم هو الكسب وإنّ الحقوق هي احتياجات فرديّة فقط. اليوم مثل أمس، ملح الإيمان، ليس جوابًا بحسب العالم، فهو لا يكمن في الحماسة لشنّ الحروب الثقافيّة، بل في الزرع اللطيف والصابر لملكوت الله، وقبل كلّ شيء في شهادة المحبّة. يذكر دستوركم أنّكم تريدون أن تبنوا الدولة على تراث القدّيسَين كيرلّس وميثوديوس، شفعاء أوروبّا. إنّهم، بدون فرض وبدون إكراه، قاموا بإخصاب الثقافة بالإنجيل، فولَّدوا واقع خير ومنفعة. هذا هو الطريق: ليس النضال من أجل غزو المساحات والسيطرة، ولكن الطريق التي أشار إليها القدّيسون، طريق التطويبات. من هنا، من التطويبات، تنبثق الرؤيّة المسيحيّة للمجتمع.
أظهر القدّيسان كيرلّس وميثوديوس أيضًا أنّ المحافظة على الخير لا يعني تكرار الماضي، بل الانفتاح على التجديد من دون اقتلاع الجذور. يوجد في تاريخكم كُتّاب وشعراء ورجال ثقافة كثيرون كانوا ملح البلاد. وبما أنّ الملح يحرق الجراح، كذلك مرّت حياتهم في كثير من الأحيان ببوتقة الألّم. كم من الشخصيّات اللامعة أُلقُوا في السجون، وظلّوا أحرارًا في داخلهم، وقدّموا أمثلة ساطعة في الشجاعة والانسجام ومقاومة الظلم! وقبل كلّ شيء، غفروا. هذا ملح أرضكم.
أمّا محنة عصرنا فهي الجائحة. وقد أظهرت لنا كم هو سهل أن ننفصل بعضنا عن بعض وأن يفكّر كلّ واحد في نفسه فقط، حتّى ولو كنا في الوضع نفسه. بدلًا من ذلك، لنبدأ بالاعتراف بأنّنا جميعًا ضعفاء وبحاجة إلى الآخرين. لا أحد يستطيع أن يعزل نفسه، لا الأفراد ولا الشعوب. لنقبل هذه الشّدة ولنعتبرها "دعوة لإعادة التفكير في أساليب حياتنا" (راجع رسالة بابوية عامة، "كلنا إخوة" Fratelli tutti ، 33). لا يفيدنا التشكّي من الماضي، علينا أن نشمّر عن سواعدنا لبناء المستقبل معًا. أتمنّى لكم أن تفعلوا ذلك ونظركم متّجه إلى العُلى، كما لو كنتم تنظرون إلى جبالكم الرائعة، جبال تاترا. هناك، بين الغابات والقمم المنطلقة نحو السماء، يبدو الله أقرب وتظهر الخليقة وكأنّها البيت الذي لم يمسّه (دمار)، والذي استضاف أجيالًا كثيرة على مرّ القرون. تربط جبالكم القمم والممرّات الطبيعيّة المتنوعة في سلسلة واحدة، وتتخطّى حدود الدولة لتجمع بين الشعوب المختلفة في الجمال. حافظوا على هذا الجمال، الجمال الذي يجمع الكلّ. يتطلّب هذا صبرًا وجهدًا وشجاعة ومشاركة، واندفاعًا وإبداعًا. لكن هذا هو العمل البشري الذي تباركه السماء. بارككم الله، بارك الله هذه الأرض. Nech Boh žehná Slovensko! [بارك الله سلوفاكيا!]. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana