الزيارة الرسوليّة إلى جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة
كلمة قداسة البابا فرنسيس
في اللقاء مع ممثلّي بعض الأعمال الخيرية
في السّفارة البابويّة في كينشاسا
الأربعاء 1 شباط/فبراير 2023
________________________________________
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
أحيّيكم بمودّة وأشكركم على الأناشيد وشهادات الحياة وما قلتموه لي، ولا سيّما على كل ما تصنعونه! في هذا البلد، حيث العنف كثير، ويُدَوِّي مثل ضجيج الشّجرة التي تُقطع وتقع، أنتم الغابة التي تنمو كلّ يوم في صمت وتجعل الهواء أفضل وصالحًا للتنفس. بالتأكيد، الشّجرة التي تسقط تُحدث ضجيجًا أكثر منكم، لكن الله يحب ويُنمِي السّخاء الذي ينبت بصمت ويؤتي ثمرًا، وينظر بفرح إلى الذين يخدمون المحتاجين. هكذا ينمو الخير، في بساطة الأيدي والقلوب الممتدة إلى الآخرين، وفي شجاعة الخطوات الصّغيرة للاقتراب من أضعف الناس باسم يسوع. المثل الذي ذكرته سيسيليا صحيح حقًّا: "ألف خطوةٍ تبدأ دائمًا بخطوةٍ واحدة"!
تأثّرت بشيء واحد: لم تعرضوا عليَّ ببساطة اللوائح بالمشاكل الاجتماعيّة، ولم تقوموا بتعداد البيانات العديدة حول الفقر، ولكن قبل كلّ شيء تكلّمتم بمودّة على الفقراء. تكلّمتم على أنفسكم وعلى أشخاص لم تكونوا تعرفونهم من قبل والذين صاروا الآن مألوفين لكم: بالأسماء والوجوه. شكرًا لكم على هذه النظرة التي تعرِف كيف تتعرَّف على يسوع في أصغر إخوته. يجب البحث عن الرّبّ يسوع ومحبّته في الفقراء، وبكوننا مسيحيّين، يجب أن نتوخى الحذر إن ابتعدنا عنهم، لأن هناك خطأ ما عندما يقيم المؤمن المسافات بينه وبين أحبّاء المسيح.
بينما الكثيرون اليوم يتجاهلونهم، أنتم تعانقونهم. وبينما العالم يستغلّهم، أنتم تدعمونهم وتعززونهم. الدّعم والتّعزيز ضد الاستغلال: هذه هي الغابة التي تنمو بينما يحتدم العنف بفساده، وتُزال الغابات والإنسان! أودّ أن أعطي صوتًا لما تقومون به، لتعزيز النّمو والأمل في جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة وفي هذه القارة. جئت إلى هنا تدفعني الرّغبة في أن أعطي صوتًا لمن لا صوت لهم. كم أتمنّى لو أعطت وسائل الإعلام مساحة أكبر لهذا البلد ولكلّ إفريقيا! حتّى تُعرَفَ شعوب هذه القارة الفتية، قارة المستقبل، وحتّى تُعرَف ثقافاتها وآلامها وآمالها! سيكتشفون مواهب هائلة وقصص عظمة إنسانيّة ومسيحيّة حقيقيّة، قصصًا ولدت في بيئة عفوية أصليّة، تعرِف جيّدًا احترام الصّغار، والكبار المتقدّمين في السّن، والخليقة.
جميلٌ أن أعطي لكم صوتًا هنا في السّفارة، لأنّ الممثليات البابويّة، ”بيوت البابا“ المنتشرة في العالم، هي ويجب أن تكون مكبّر صوت لدعم وتعزيز الإنسان، ومراكز للمحبّة، وفي الخطوط الأولى في دبلوماسيّة الرّحمّة، وفي دعم المساعدات العمليّة وتأييد شبكات التّعاون. كان هذا يتِمُّ من قبل، دون ضجة، في أنحاء كثيرة من العالم وهنا منذ فترة طويلة: كان هذا البيت حاضرًا وقريبًا منكم منذ عشرات السّنين. تمّ تدشينه قبل تسعين سنة بصفة قصادة رسوليّة، وسيحتفل في غضون أيام قليلة بالذكرى السنويّة السّتين لارتقائه إلى سفارة.
أيّها الإخوة والأخوات، أنتم الذين تحبّون هذا البلد وتكرّسون أنفسكم لأهله، إنّكم تصنعون أمورًا رائعة، وليس الأمر سهلًا في أيّ حال من الأحوال. يثير فينا البكاء سماعُ القصص التي قلتموها لي، عن المتألّمين الذين دفعتهم اللامبالاة العامّة إلى العيش في الشّوارع، فصاروا عرضة لمخاطر العنف الجسديّ والاعتداء الجنسيّ، وكذلك لاتهامهم بالسّحر، بينما هم يحتاجون فقط إلى الحبّ والعنايّة. تأثّرت بما قلتَه لنا، تيكاديو، أنّه بسبب مرض الجذام ما زلت تشعر اليوم، في سنة 2023، "بالتّمييز، وبالإذلال، ويُنظَر إليك بازدراء، وإهانة"، والناس، بمزيج من الخجل وسوء الفهم والخوف، يسارعون إلى أن ينظّفوا حيث مرّ حتّى ظلك. الفقر والرّفض يُسيئان للإنسان ويضران بكرامته، ويقسوان عليه: إنّهما مثل الرّماد الذي يُطفئ النّار التي يحملها في داخله. نَعَم، كلّ شخص، بكونه مخلوقًا على صورة الله، يضيء بنار ساطعة، لكن الحبّ وحده يزيل الرّماد الذي يغطيه: فقط باستعادة الكرّامة يمكن استعادة إنسانيته! وحزنت عندما سمعت أنّه هنا أيضًا، كما هو الحال في أنحاء كثيرة من العالم، الأطفال والكبار المتقدّمون في السّن يُهملون. هذا أمرٌ لا يليق بالإنسان، وبالإضافة إلى أنّه مشكك، فهذا مضِرٌّ بالمجتمع بأسره، الذي يبني نفسه بدءًا برعاية الكبار المتقدّمين في السّن والأطفال، رعاية الجذور والمستقبل. لنتذكّر: التنميّة البشريّة الحقيقيّة لا يمكن أن تكون بدون ذاكرة ومستقبل. ذاكرة يحملها المتقدّمون في السّن، ومستقبل يحمله الشّباب.
أيّها الإخوة والأخوات، اليوم، ومن خلالكم، ومع العاملين الخيّرين الكثيرين في هذا البلد العظيم، أودّ أن أشارككم بسؤالين. أوّلًا: هل يستحقّ الأمر؟ هل يستحقّ أن نلتزم أمام محيط من الاحتياجات التي تتزايد باستمرار وبشكل مأساويّ؟ أليس هذا جهدًا عقيمًا، بالإضافة إلى أنّه مُحبط غالبًا؟ يساعدنا في الجواب ما قالته الرّاهبة ماريّا تشيليستي: "على الرّغم من صِغَرِنَا، يريد الرّبّ يسوع المصلوب أن نكون بجانبه، لكي نسند مأساة العالم". هذا صحيح، عمل المحبّة يتناغم مع الله وهو يفاجئنا بالعجائب غير المتوقّعة التي تحدث بأيدي الذين يحبّون. قصصكم مليئة بالأحداث المدهشة، والمعروفة في قلب الله والمستحيلة على القوّة البشريّة وحدها. أفكّر في ما كلّمتنا عليه يا بيير، عندما قلت إنّه في صحراء العجْزِ واللامبالاة، وفي بحر الألم، اكتشفت مع أصدقائك أنّ الله لم ينسَكم، لأنّه أرسل إليكم أشخاصًا لم يلتفتوا إلى الجانب الآخر وهم يعبرون الطّريق حيث كنتم. هكذا، اكتشفتم في وجوههم من جديد وجه يسوع، والآن تريدون أن تفعلوا الأمر نفسه مع الآخرين. هذا هو الخير، إنّه يَنتشر، ولا يدع الاستسلام والاحصائيّات تشلّه، بل يدعونا إلى أن نُعطي الآخرين ما حصلنا عليه مجّانًا. نحن بحاجة لأن يرى الشّباب، خصوصًا، هذا الأمر: وجوهٌ تتجاوز اللامبالاة وتنظر إلى الأشخاص في عيونهم، وأيدٍ لا تحمل السّلاح ولا تتعامل مع المال، بل تمتدّ إلى من هم على الأرض فتقيمهم وترفعهم إلى مستوى كرامتهم، كرامة ابنة الله وابن الله. في حالة واحدة فقط يجوز أن ننظر إلى الإنسان من أعلى إلى أسفل: من أجل مساعدته على القيام. خلاف ذلك لا يمكننا أبدًا أن ننظر إليه من أعلى إلى أسفل.
لذلك، يستحقّ الأمر، وهي علامة جيّدة أنّ السّلطات، من خلال الاتّفاقيّات الأخيرة مع مجلس الأساقفة، اعترفت وقيّمت عمل الذين يلتزمون في المجال الاجتماعيّ والخيريّ. بالتّأكيد، هذا لا يعني أنّ رعاية الأضعفين، وكذلك الالتزام بالصّحّة والتّعلِيم، يمكن تفويضه، بصورة منهجيّة، إلى العمل التّطوّعي. إنّها مهام من مسؤوليّة الذين يحكمون، ومن أولوياتهم، وكذلك الاهتمام بضمان الخدمات الأساسيّة للسّكّان الذين يعيشون بعيدًا عن مراكز المُدُن الكبيرة. في الوقت نفسه، على المؤمنين بالمسيح ألّا يُغرِقوا شهادة المحبّة، التي هي شهادة الله، في البحث عن الامتيازات، والمكانة، والظّهور والسُّلطة. هذا شيء سيء، يجب ألّا نعمل ذلك أبدًا. لا، الوسائل، والموارد والنّتائج الجيّدة هي من أجل الفقراء، ومن يعتني بهم مدعو دائمًا إلى أن يتذكّر أنّ السُّلطة هي خدمة وأنّ عمل المحبّة لا يحملنا لأن نطلب الأمجاد، بل يتطلّب استعدادًا للطّوارئ وواقعيّة. بهذا المعنى، ومن بين الأمور الكثيرة التي يجب القيام بها، أودّ أن أؤكّد على التّحدّي الذي يهمّ الجميع، وهذا البلد أيضًا كثيرًا. ما يسبّب الفقر، ليس النّقص في الخيرات والفُرص، بل هو توزيعها غير العادل. الغني، وخاصّةً إن كان مسيحيًّا، مدعوٌ إلى أن يشارك ما يمتلكه مع المحروم من الأمور الضروريّة، وبالأخصّ إن كان ينتمي إلى الشّعب نفسه. المسألة ليست مسألة إحسان، بل مسألة عدل. وليس عملًا خيّريًّا، بل هو إيمان، لأنّه، كما يقول الكتاب المقدّس، "الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيْت" (يعقوب 2، 26).
وأشارككم سؤالًا ثانيًّا، عن واجب عمل الخير ومتى يكون مُلِحًّا: كيف نعمل ذلك؟ كيف نقوم بأعمال المحبّة، وما هي المعايير التي يجب أن نتبعها؟ في هذا الصّدد، أودّ أن أقدّم لكم ثلاث نقاط بسيطة. هي جوانب تعرفها المؤسّسات الخيريّة التي تعمل هنا، ولكن من الجيّد أن نتذكّرها، حتّى تكون خدمة يسوع في الفقراء شهادة، تأتي دائمًا بثمر أكثر.
أوّلًا، عمل الخير يتطلّب مثال الحياة: لأنّه في الواقع، ليس فقط أمرًا نعمله، بل هو تعبير عمّا نحن، عن ذاتنا. إنّه أسلوب حياة، وهو عيش الإنجيل. ومن ثَمَّ الحاجة إلى المصداقيّة والشّفافيّة: أفكّر في الإدارة الماليّة والإداريّة للمشاريع، ولكن أيضًا في الالتزام بتقديم خدمات مناسبة وجيّدة. هذا هو بالتّحديد الرّوح الذي يميّز الأعمال الكنسيّة الكثيرة التي يستفيد منها هذا البلد والتي تركت وسمًا في تاريخه. ليكن دائمًا مثال الحياة مع عمل الخير.
النّقطة الثّانية هي: بُعدُ النّظر، أيْ أن نعرف كيف ننظر إلى الأمام. إنّه أمرٌ أساسيّ أن تكون المبادرات والأعمال الخيريّة، بالإضافة إلى الإجابة على الاحتياجات الفوريّة، مُستدَامة ومُستمرّة. لا أن تكون مساعدات تخلق الاتكالية فقط، بل تكون مبنيّة على أساس ما يمكن عمله وبالنظر إلى مدى بعيد، حتّى تستمرّ مع مرور الوقت ولا تنتهي مع من بدأها. في هذا البلد، على سبيل المثال، توجد تربة خصبة بشكل فريد، إنّها أرض خصبة بصورة خارقة. وكَرَم الذين يساعدون لا يمكنهم ألّا يتبنوا هذه الميزة، فيعزّزوا التّنمية الداخليّة لجميع سكان هذه الأرض، ويعلّموهم كيف يزرعونها، ويُحيُوا فيها مشاريع تنمية تضع المستقبل بين أيديهم. بدل توزيع الخيرات التي سيكون الناس دائمًا بحاجة إليها، من الأفضل أن ننقل إليهم المعرفة والأدوات التي تجعل التّنمية مستقلّة ومُستدامة. في هذا الصدد، أفكر أيضًا في المساهمة الكبرى التي تقدّمها الرّعاية الصّحيّة الكاثوليكيّة، والتي في هذا البلد، كما هو الحال في بلدان أخرى عديدة في العالم، تمنح الرّاحة والرّجاء للسكان، وتساعد الذين يتألّمون بسخاء وجدية، وتبحث دائمًا، كما ينبغي، للمساعدة من خلال أدوات حديثة ومناسبة.
مثال الحياة، وبُعدُ النّظر وأخيرًا التّواصل، هذا هو العنصر الثّالث. أيّها الإخوة والأخوات، يجب خلق شبكة، ليس فقط افتراضيّة، بل عمليّة، كما يحدث في هذا البلد في سيمفونيّة الحياة في الغابة الكبيرة ونباتاتها المتنوّعة. أن تصنعوا شبكة: أن تعملوا معًا دائمًا بصورة متزايدة، وأن تكونوا في تعاون مستمّر فيما بينكم، وفي شركة مع الكنائس المحلّيّة ومع المنطقة. العمل في شبكة: كلّ واحد بمواهبه الخاصّة ولكن معًا، متّصلين، متشاركين في الطّوارئ، والأولويّات، والضّروريات، من دون انغلاق ومرجعيّة ذاتيّة، ومستعدّين للتعاون مع جماعات مسيحيّة أخرى وديانات أخرى، ومنظّمات إنسانيّة كثيرة موجودة هنا. كلّ ذلك من أجل خير الفقراء. أن تصنعوا شبكة مع الجميع.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أترك لكم هذه الأفكار وأشكركم على ما تركتموه في قلبي اليوم. نعم، شكرًا جزيلًا لكم لأنّكم لمستم قلبي. أنتم عزيزون. أبارككم وأطلب منكم، من فضلكم، أن تستمرّوا في الصّلاة من أجلي، التي أنا بحاجة إليها. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana