رسالة عامّة
"الغوص في الرحمة"
للحبّر الأعظم يوحنا بولس الثّاني
في الرّحمة الإلهية
بركة
الإخوة المكرمّون، أبنائي وبناتي الأعزّاء
تحيّة وبركة رسوليّة!
I. من رآني رأى الآب (را. يو: 14/9)
"الله الغنيّ بالرحمة"[1] هو الذي أعلنه لنا يسوع المسيح كأب: إنّه هو، ابنه، الذي أظهره لنا وعرّفنا عنه في ذاته[2]. تُستَذكَرُ، في هذا الصّدد، اللّحظة التي فيها توجّه فيلبّس، أحد الرّسل الاثني عشر، إلى المسيح قائلا له: "يا ربّ، أرِنا الآب، وحسبُنا"، فأجابه يسوع: "أنا معكم كُلَّ هذا الزمان، وما عرفتني...؟ من رآني رأى الآب"[3]. هذه الكلمات قيلت في خطبة الوداع، في ختام العشاء الفصحيّ، الذي تلته أحداثُ الأيّام المقدّسة، التي ثبتتنهائيًّا، أن "الله وهو الغنيّ برحمته، فلكثرة محبّته الّتي أحبَّنا بها، وقد كنّا نحنُ أيضًا أمواتًا بزلاّتنا، أحيانا مع المسيح"[4].
إلتزامًا بتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وتقديرًا لضرورات الأزمنة الخاصّة التي نعيشها، لقد كرّستُ الرسالة البابوية "مخلّص البشرّيّة"، للحقيقة حول الإنسان، التي كُشِفَت لنا في المسيح بكمالها وبعمقها. وهناك أيضًا ضرورة ملحّة، في هذه الأزمنة الحرجة والصعبة، تدفعني الى اكتشاف، مرّة جديدة في المسيح بالذات، وجه الآب، ذاك الذي هو "أبو المراحم وإلهُ كلّ تعزية"[5]. ونقرأ بالفعل، في الدستور فرح ورجاء، "المسيح، آدم الجديد، يكشف لنا ...، ويبيِّنُ للإنسان ما هو عليه بالذات كاشفاً له عن سموّ دعوته": يقوم بذلك بالتحديد، "كاشفًا بالذات عن سرّ الآب وحبّه"[6]. هذا النص يثبت بوضوح، أن ظهور الإنسان بملء كرامة طبيعته، لا يمكن أن يحصل دون المرجعية لله -ليست مرجعية نظريّة فحسب بل وجوديّة بالتمام. ويظهر الإنسان ورسالته السامية في المسيح بواسطة الكشف عن سرّ الآب وحبّه.
لذا يجدر بنا الآن التأمل في هذا السرّ. فالتجارب المتعدّدة للكنيسة والإنسان المعاصر تدعونا الى ذلك، كما تقتضيه أيضًا أمنيات الكثير من القلوب البشرّية وآلامها وآمالها وضيقها وتطلعاتها. وإذا كان صحيحًا، كما سبق وذكرت في الرسالة العامّة "مخلّص البشرية"، أنّ الإنسان هو درب الكنيسة، إلى حدّ ما، فالإنجيل والتقليد الكنسيّ يبيّنان لنا باستمرار، في الوقت عينه، وجوبَ اجتياز هذا الدرب، مع كلّ إنسان، كما رسمه المسيح، كاشفاً، في شخصه، الآبَ وحبّه[7]. فالسير نحو الإنسان في يسوع المسيح، على النحو الذي أُعطيَ للكنيسة، بشكل حاسم، في مجرى الأزمنة المتغيّر، يعني في الوقت نفسه، السير نحو الآب وحبّه. ولقد أثبت المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الحقيقة لعصرنا هذا.
بقدر ما كانت رسالة الكنيسة مركّزة على الإنسان –أي بقدر ما كانت مركزيّة بشريّة (أنثروبية)- بقدر ما يجب أن تثبت ذاتها وتحقّقها بطريقة مركزيّة إلهيّة، أي أن تتوجّه بواسطة يسوع المسيح نحو الآب. فبينما كانت ولا تزال، مختلف التيّارات الفكريّة القديمة والمعاصرة، تميل الى الفصل بين المركزيّة الألهيّة والمركزيّة البشريّة، بل إلى التعارض بينهما، تحاول الكنيسة بعكس ذلك، وعلى خطى المسيح، أن تضمهما في تاريخ الإنسان بشكل عضويّ وعميق. إنّ هذا هو أحد المبادئ الأساسيّة لتعليم المجمع الأخير، وربّما أهمّها. فإن اقترحنا على أنفسنا مهمّة رئيسيّة، في المرحلة الحاضرة من تاريخ الكنيسة، ألا وهي تطبيق مبادئ هذا المجمع الكبير، علينا أن نعود الى هذا المبدأ، بإيمان وانفتاح ذهن، وبكل إخلاص. لقد حاولت في رسالتي العامّة، السابقة الذكر، أن ألفت النظر الى أن تعمّقَ وعي الكنيسة وإغنائه المتعدّد الأشكال، اللذين هما ثمرة المجمع، يجب أن يفتحا فكرنا وقلبنا على المسيح بشكل أوسع. وأودّ أن أقول اليوم بأِنَّ الانفتاح على المسيح، الذي بصفته مخلّص العالم، يكشف الإنسان للإنسان كليًّا، لا يمكن أن يتحقق إلّا عبر مرجعية دائمة النضوج، للآب ولمحبّته.
2. تجسّد الرحمة
الله "الذي يقيم في نور لا يُدرك"[8]، يخاطبُ الإنسانَ أيضًا، عبر لغة الكون: وبالفعل، "مُنْذُ خَلْقِ العالَم لا يَزالُ ما لا يَظهَرُ مِن صِفاتِه، أَي قُدرَتُه الأَزَلِيَّةُ وأُلوهَتُه، ظاهِرًا لِلبَصائِرِ في مَخلوقاتِه"[9]. هذه المعرفة غير المباشرة وغير الكاملة، التي هي عمل العقل الذي يبحث عن الله في العالم المرئيّ، من خلال خلائقه، ليست بعدُ "رؤية الآب". "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ"، كتب القديس يوحنّا كي يُبرز بشكل أفضل الحقيقةَ بأن "الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه"[10]. هذا الوحي يُظهر الله في سرّه الذي لا يُدرك –إله واحد وثالوث- محاطًا "بنور لا يُقتَرَبُ مِنه"[11]. إلاّ إننا، من"وحي" المسيح هذا، نعرف الله، أوّلاً، في حبّه للإنسان، و"حبّه للبشرّ"[12]. وهنا تصبح "مرئيةً" كمالاتُه "غير المرئية"؛ مرئيّة عبر المسيح أكثر بكثير من عبر أيّ عمل من الأعمال "التي قام بها": تصبح مرئيّة في المسيح وبواسطة المسيح، عبر أعماله وأقواله، وأخيرًا، في موته على الصليب وقيامته.
هكذا، في المسيح وبواسطة المسيح، يصبح الله أيضًا مرئيًّا بشكل خاص في رحمته، أي بإبراز السمة الإلهية التي حددّها العهد القديم، عبر تعابير ومفاهيم متعدّدة، "بالرحمة". هكذا يضفي المسيح، المعنى النهائي، لكامل تقليد العهد القديم حول الرحمة الالهيّة. فهو لا يتحدّث عنها ويشرحها مستخدمًا الصور والأمثال وحسب، بل يجسّدها ويشخّصها. إنه بذاته الرحمة نوعًا ما. ولكلّ من يراها فيه –وفيه يجدها- يصبح الله "مرئيًا" كأبٍ "غنيّ بالرحمة"[13].
يبدو أن الذهنية المعاصرة، وربما أكثر ممّا كانت عليه الذهنيّة القديمة، تناهض إله الرحمة، وتميل الى إلغاء حتّى فكرة الرحمة من الحياة، ونزعها من القلب البشرّي. يبدو أن الكلمة ومفهوم الرحمة يزعجان الإنسان الذي، بفضل التطوّر العلمي والتقني غير المعروف سابقًا، أصبح سيّد الأرض التي أخضعها وسيطر عليها[14]. السيطرة هذه على الأرض، المفهومة أحيانًا بشكل أحاديّ وسطحيّ، يظهر انّها لا تفسح المجال للرحمة. إلاّ أنه يمكننا في هذا الصدد، الاستفادة بالرجوع إلى صورة "وضع الإنسان في العالم المعاصر"، كما رُسِمَت في بداية الدستور فرح ورجاء. ونقرأ في هذا الدستور، من جملة الأمور، الجملَ التالية: "فالعالم الحديث يبدو هكذا قويًّا وضعيفًا في آن، يستطيع أن يُقدِم على الأحسن والأردأ. كما أنّ طريق الحريّة وطريق الاستعباد مفتوحتان أمامه، وكذلك طريق التقدّم والتقهقر وطريق الأخوّة أو البغض. ويدرك الإنسان من ناحية ثانية أن القوى التي فجّرها منوط به أن يوجّهها توجيهًا صحيحًا. ويدرك أيضًا أنّ هذه القوى تستطيع أن تسحقه أو أن تخدمه"[15].
إن وضع العالم المعاصر لا يُظهِر فقط تطوّرات يمكنها أن تجعل الإنسان يأمل بمستقبل أرضي أفضل، بل إنّه يكشف أيضاً عن تهديدات متعدّدة، أسوأ من التي عرفناها حتى اليوم. على الكنيسة ألا تكفّ عن التنديد بهذه التهديدات في مختلف المناسبات (كمداخلاتها في الأمم المتحدة والأونيسكو ومنظمة الأغذية الدولية وغيرها)، بل عليها أن تتمعّن بها في الوقت ذاته، على ضوء الحقيقة التي تتلقّاها من الله.
إنّ الحقيقة التي أوحى اللهُ بها في المسيح "أب المراحم"[16]، تسمح لنا بأن "نراه" قريبًا بشكل خاص من الإنسان، ولاسيما عندما يتألّم وعندما يكون مهدّدا في جوهر وجوده وكرامته. ولهذا، حيال الوضع الحالي للكنيسة والعالم، إن الكثير من الناس والبيئات، محفّزين بحسّ إيماني حادّ، يوجّهون أنظارهم بطريقة شبه تلقائيّة إلى الرحمة الإلهية. ويدفعهم إلى ذلك بالتأكيد، المسيح الذي يعمل في أعماق القلوب البشرية بواسطة الروح. بالفعل إنّ سرّ الله بصفته "أب المراحم" الذي كشفه لنا المسيح، يصبح، إزاء التهديدات الحالية للإنسان، شبه نداءٍ فريدٍ موجّه الى الكنيسة.
أودّ في الرسالة العامّة هذه أن أجيب على هذا النداء، مستعيدًا الحديث الأزلي، والمنقطع النظير في البساطة والعمق، بشأن الوحي والإيمان، كي أعبّر بفضله، من جديد، أمام الله والناس، عن هواجس زمننا الكبرى وانشغالاته.
في الواقع، إنّ الوحي والإيمان يعلّماننا اللجوء الى هذه الرحمة باسم المسيح وباتّحاد معه، أكثر من التأمل، بطريقة مجرّدة، في سرّ الله "أب المراحم". ألم يعلّمنا المسيح أن أبانا "الذي يرى في الخفية"[17]، ينتظر باستمرار، يمكننا القول، إذ نلتجيء إليه في كلّ احتياجاتنا، أن نستقصي سرَّه على الدوام، وسرّ الآب وسرّ حبّه ؟[18].
أتمنّى إذًا، أن تجعل الاعتبارات التالية هذا السرّ أقرب إلى الجميع، وتصبح، في الوقت عينه، نداء الكنيسة الصارخ للرحمة الإلهية التي تشكّل ضرورةً ماسّة للإنسان ولعالمنا المعاصر. إنهم بحاجة ماسة اليها حتى وإن كانوا غالبًا ما يجهلونه.
3. عندما بدأ المسيح يعمل ويعلّم
يشير المسيح، أمام أبناء بلدته في النّاصرة، إلى أقوال النبي أشعيا قائلاً: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ”[19]. إن هذه الآيات، بحسب إنجيل القدّيس لوقا، تشكّل أوّل إعلان مسيحانيّ له، والذي سوف تليه أعمال وأقوال نعرفها من خلال الإنجيل. بهذه الأعمال والأقوال يجعل المسيحُ الآبَ حاضرًا بين البشرّ. وكم يحمل من معنى ودلالة أن يكون هؤلاء الناس بالأخصّ، الفقراء الذين يفتقدون سبل العيش، والمحرومين من الحريّة، والعميان الذين لا يمكنهم رؤية جمال الخلق، وذوي القلوب المنكسرة، أو الذين يتألّمون من الظلم الإجتماعي، وأخيرًا الخطأة. فالمسيح يصبح لهؤلاء بالأخصّ علامة ظاهرة للغاية على أنّ الله محبّة؛ فيصبح علامة من الآب. من خلال هذه العلامة الظاهرة يمكن لمعاصرينا كما للأجيال السابقة أيضًا أن يروا الآب.
من اللافت بمكان أن يشير يسوع الى شهادته التي دشّن بها تعليمه في الناصرة، عندما سأله موفدا يوحنّا المعمدان: "هل أنت الآتي أم ننتظر آخر؟"[20]. فأجابهم قائلاً: " إذهبوا وأخبروا يوحنّا بما رأيتم وسمعتم: العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يُبشرّون"، وأن يختم بعدها قائلاً: "وطوبى لمن لا يشكّ فيّ"[21].
لقد كشف يسوع، بأسلوب حياته وأعماله، كيف أن الحبّ هو حاضر في عالمنا، الحبّ الفاعل، الحبّ الذي يتوجّه الى الإنسان ويشمل كلّ ما يكوّن إنسانيّته. يظهر هذا الحبّ بشكل خاص إزاء المعاناة والظلم والفقر وكلّ "ظروف الحياة" التاريخيّة، التي تُظهر، بطرق شتّى، طبيعة الإنسان المحدودة والهشّة، جسديًّا ونفسيًّا. والحال أنّ الطريقة التي يظهر بها الحبّ ومجاله تسمّى في لغة الكتاب المقدس، "رحمة".
فالمسيح إذًا يُظهرُ الله الذي هو أبٌ، والذي هو "محبّة"، كما يقول القديس يوحنّا في رسالته الأولى[22]؛ المسيحُ يكشفُ الله وهو "الواسِعَ الرَّحمَة" كما نقرأه في رسالة القديس بولس[23]. وتمثّل هذه الحقيقة واقعًا جعله المسيح حاضرًا ملموسًا، أكثر منه موضوع تعليم. إظهار الآب كمحبّة ورحمة هو، في وعي المسيح، التعبير عن الحقيقة الجوهرية لرسالته كمسيح؛ وتثبت ذلك أقواله التي أطلقها أوّلا في مجلس اليهود في الناصرة، ثم على مسامع تلاميذه وموفدي يوحنّا المعمدان.
إستنادًا الى هذه الطريقة لإظهار وجود الله الذي هو أب ومحبّة ورحمة، يجعلُ يسوع من الرحمة أحد المواضيع الأساسية في تبشيره. وكعادته، هنا أيضًا، يعلّم بالأخصّ "بالأمثال"، إذ إنها تعبّر بالأفضل عن جوهر الأشياء عينه. يكفي التذكير بمثل الإبن الضالّ[24]، أو أيضاً، بمثل السامريّ الصالح[25]، ولكن أيضًا بالمقابل، مثل الخادم العديم الشفقة[26]. عديدة هي المقاطع من تعليم المسيح التي تظهر المحبّة–الرحمة في حلّة دومًا جديدة. يكفي أن ننظر إلى الراعي الصالح الذي يذهب للبحث عن النعجة الضالّة[27] أو أيضًا المرأة التي تكنس البيت، بحثًا عن الدرهم الضائع[28]. إنّ الإنجيلي الذي يطرح بشكل خاص هذه المواضيع في تعليم المسيح هو القدّيس لوقا، إذ استحقّ إنجيله أن يسُمّى "إنجيل الرحمة".
في موضوع التبشير هذا، تبرز مشكلة ذات أهميّة أساسيّة، ألا وهي معنى التعابير ومضمون هذا المفهوم، وبخاصة مفهوم الرحمة (في علاقتها مع فكرة "المحبّة"). فاستيعاب هذين المفهومين هو بمثابة المفتاح الذي يخوّل فهم واقع الرحمة بالذات. وهذا ما يهمّنا بالأكثر، إلاّ أننا، قبل أن نخصّص قسمًا آخر من اهتمامنا لهذا الموضوع، أي قبل وضع معاني الكلمات والمحتوى الخاص بمفهوم الرحمة، لا بدّ أن نلاحظ أن المسيح، من خلال كشفه لمحبّة الله ورحمته، فرض على الناس، في الوقت عينه، أن يسترشدوا في حياتهم بالمحبّة والرحمة. وتشكّل هذه الضرورة جزءاً من جوهر الرسالة المسيحانيّة نفسها وتكوّن جوهر الأخلاقية الإنجيليّة – الكيان الإنجيلي. ويعبّر عنه المعلّم بواسطة الوصيّة التي حدّدها كالوصية الكبرى[29]، كما بشكل بَرَكَة، عندما قال في خطبته على الجبل:"طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"[30].
هكذا، تحمل الرسالة المسيحانيّة حول الرحمة، بعداً إلهياً وإنسانياً خاصاً. فالمسيح -متمّم النبوءات المسيحيانيّة- إذ جسّد المحبّة التي تتجلّى بقوّة خاصّة حيال المتألمين والبائسين والخطأة، قد جعل هكذا الآب حاضراً، وكشف بالكامل عنه، الذي هو الله "الغنيّ في المراحم". في الوقت نفسه، وبكونهأصبح مثالاً للمحبّة الرحومة تجاه الآخرين، يعلنُ المسيحُ، بأعماله أكثر منه بأقواله، الدعوةَ الى الرحمة التي هي إحدى المكوّنات الأساسيّة لجوهر الإنجيل. لا يتعلّق الأمر هنا فقط بتتميم وصيّة ما أو واجب ذي طابع خلقيّ، بل بالاستجابة لشرطٍ ذي أهمّية قصوى، كي يقدر الله أن يتجلّى في رحمته للإنسان: “الرحماء... يُرحمون"
4. مفهوم "الرحمة" في العهد القديم
يحفل مفهوم "الرحمة" في العهد القديم بتاريخ غنيّ وطويل. فعلينا أن نعود بالذاكرة الى هذا التاريخ لتشع بالكامل الرحمة التي كشفها لنا المسيح. فالمسيح، بتعريفه للرحمة عبر أعماله وتعليمه، كان يتوجّه إلى أناس لا يعرفون فكرة الرحمة وحسب، بل إلى أناس، مثل شعب الله في العهد القديم، قد استخلصوا من تاريخهم الدهري خبرةً خاصة تتعلّق بالرحمة الإلهية. وكانت هذه الخبرة إجتماعية وجَماعيّة، بقدر ما كانت فرديّة وداخليّة.
بالفعل، كان إسرائيل شعب العهد مع الله، ذاك العهد الذي فسخه مرّات عديدة. وعندما كان يدرك عدم وفائه، ولم يخلُ طيلة تاريخ اسرّائيل، من رجال وأنبياء يدعون لإيقاظ الضمير هذا، كان يطلب الرحمة. تنقل لنا كتب العهد القديم شهادات عدّة حول هذا الموضوع. ومن بين الأحداث والنصوص الأكثر أهمية، نذكر بداية تاريخ القضاة[31]، صلاة سليمان يوم تدشين الهيكل[32]، خاتمة النبي ميخا[33]،الضمانات المؤاسية لآشعيا[34]، توسّلات اليهود المنفيين[35]، تجديد العهد بعد العودة من المنفى[36].
إنّه لمعبّر أن يقومَ الأنبياءُ في تبشيرهم، بربطِ الرحمة، التي غالبّا ما يتحدّثون عنها بسبب خطايا الشعب، بصورةِ محبّة الله له. يحبُّ الربُّ إسرائيلَ حبًّا اختياريًّا خاصًّا، شبيهًا بحبّ الزوج لزوجته[37]؛ لذا يغفر له ذلاّته وحتّى عدم أمانته وخياناته. وإذا واجه التوبة والارتداد الحقيقي، يعيد شعبه من جديد الى نعيم رحمته[38]. إنّ الرحمة، في تبشير الأنبياء، تعني قوّة المحبّة المميّزة التي تقوى على خطيئة الشعب المختار وعدم أمانته.
في هذا الإطار "الاجتماعي" الواسع، تبدو الرحمة كعنصر مترابط مع الخبرة الداخليّة لكلّ من هم في حال الخطيئة، وفريسة الألم أو المصيبة. فالألم الجسديّ كما النفسيّ أو الخطيئة، هو ما يحمل أبناء إسرّائيل وبناتها على التضرّع الى الله وطلب رحمته. هكذا، وبعد أن أدرك داود تماما جسامة خطيئته، توسّل الى الله[39]، كما فعل أيوب، بعد عصيانه، في مصابه المرير[40]. أستير أيضًا ابتهلت اليه، مدركةً خطر الموت الذي يهدّد شعبها[41]. كما أننا نجد الكثير من الأمثلة الأخرى في أسفار العهد القديم[42].
في أصل هذه القناعة المتعدّدة الوجوه، الجماعيّة والشخصيّة، التي يشهد لها العهد القديم بكامله على مرّ العصور، تبرزُ خبرةُ الشعب المختار الأساسية التي عاشها في سبيه: رأى الربّ بؤس شعبه المُستَعبد، وسمع صراخه، وعاين ضيقه، فقرّر أن يخلّصه[43]. في هذا العمل الخلاصي الذي حقّقه الربّ، تبيّن النبيّ حبّ الله وشفقته[44]. فهنا بالتحديد تتجذّر ثقة الشعب كلّه، وكلّ فرد من أفراده، بالرحمة الإلهية، التي يمكن أن نستغيث بها في أيّ ظرف مأساويّ.
يُضاف إلى ذلك أنّ بؤس الإنسان، هو أيضًا خطيئته. لقد عرف شعب العهد القديم هذا البؤس، منذ سبيه، عندما رفع نصب العجل الذهبيّ. وقد انتصر الربّ على فسخ العهد هذا، بكشفه عن ذاته جهارًا لموسى قائلاً: "إله الحنان والنعم، طويل الأناة ومفعم بالرحمة والوفاء"[45]. في هذا الوحي المحوريّ بالذات سوف يجد الشعب المختار وكلّ أفراده، بعد كلّ إثم، القوّة والسبب للجوء الى الربّ لتذكيره بما قد كشف بالتحديد عن ذاته[46] والتماس صفحه.
وهكذا أظهر الربّ رحمته، بالأفعال كما بالأقوال، منذ بدء تكوين الشعب المختار وطوال تاريخه، وكان هذا الشعب يلتجئ دومًا، في مصائبه وإدراكه لخطيئته، إلى إله المراحم. إنّ جميع فوارق الحبّ تتجلّى في رحمة الله لخاصّته: إنّه أباهم[47] بما أنّ إسرّائيل هو ابنه البكر[48]؛ هو أيضاً زوج لتلك التي بشرّها النبي بإسم جديد: رحمة، "حبيبة"، إذ ستشملها الرحمة[49].
حتّى عندما ضاق الربّ ذرعًا بعدم أمانة شعبه، وقرّر أن يحسم أمره، تغلّب ثانيةً حنانه وحبّه الكبير لشعبه على غضبه[50]. من هنا نفهم لماذا كان مؤلّفو المزامير، عندما يسعون لإنشاد أسمى تسابيح الحمد للربّ، يرتّلون أناشيد لإله الحبّ والحنان والرّحمة والوفاء[51].
كلّ هذا يُظهر أن الرحمة ليست من ضمن مفهوم الله وحسب، بل وإنها تميّز حياة كلّ شعب إسرائيل وحياة كلّ من أبنائه وبناته: إنها محتوى حميمّيتهم مع الله ومضمون حوارهم معه. هذا الجانب من الرحمة عبّرت عنه مختلف أسفار العهد القديم، بكثير من البلاغة والغنى. وممّا لا شكّ فيه أنه من الصعب البحث في هذه الأسفار عن جواب نظريّ بحت، على مسألة معرفة ماهيّة الرحمة بذاتها. ومع ذلك، إنّ المصطلحات التي تستخدمها هذه الأسفار حافلة بتعاليم حول هذا الموضوع[52].
يجاهر العهد القديم برحمة الله، مستخدمًا تعابير عديدة ذات معانٍ متقاربة للغاية؛ وإن كان لها معانٍ يختلف مضمونها، إلاّ انها تتلاقى، إذا صحّ التعبير، حول محتوى أساسيّ واحد، كي تعبّر عن غنى الرحمة السامي، وتُظهر، في الوقت نفسه، كم أنّ هذه الرحمة، بمختلف جوانبها، تخصّ الإنسان. يشجّع العهد القديم التعساء، وبخاصة المثقلين بالخطايا -كما أيضًا كلّ إسرّائيل الذي كان انضمّ الى العهد مع الله- إلى التماس الرحمة، ويتيح لهم الاتّكال عليها؛ يذكّرهم بها في أزمنة السقوط واليأس، ويؤدّي الشكر والمجد أيضًا للرحمة، كلّما ترآءت وتحقّقت في حياة الشعب أو الإنسان.
تتموضع الرحمة هكذا بتعارض، على نحو ما، مع العدالة الإلهية، وتظهر في كثير من الحالات، ليس فقط أقوى، بل أعمق منها في الصميم. ويعلّمنا العهد القديم أنّه، إن كانت العدالة فضيلة بشرّية أصيلة، وإن كانت تعني الكمال المتسامي في الله، فالمحبّة هي دومًا "أكبر منها": أكبر منها، بمعنى أنها أوّليّة وأساسيّة. المحبّة، إن جاز القول، هي شرط العدالة؛ والعدالة، في النهاية، هي في خدمة المحبّة. إن أولوّية المحبّة وتفوّقها على العدالة (التي هي سمة من سمات كلّ الوحي) يتجلّيان بالتحديد في الرحمة. تراءت هذه الحقيقة على قدر من الوضوح لمؤلّفي المزامير والأنبياء حتّى جاء تعبير العدالة كمعنى للسلام الذي يحقّقه الله ورحمته[53]. تختلف الرحمة عن العدالة، إلّا أنها لا تتعارض معها، إن اعتبرنا - كما هي الحال في العهد القديم - ان الله حاضر في تاريخ الإنسان، وإنه كخالق، ارتبط بخليقته بحبّ خاص. المحبّة بطبيعتها، تستبعد الكره ورغبة الشرّ تجاه الذي بذلت ذاتها مرّة من أجله: "لا تَمقُتُ شَيئًا مِمَّا صَنَعت"[54]. هذه الكلمات تعبّر عن أساس الارتباط العميق بين العدالة والرحمة في الله ضمن علاقاته مع الإنسان ومع العالم؛ وإنها تدعونا الى البحث عن الجذور المحيية والأسباب الحقيقيّة لهذا الرابط، بالعودة الى "البدء" في سرّ الخلق عينه. وهي تبشرّ مسبقًا في إطار العهد القديم كذلك بكامل وحي الله الذي هو "محبّة"[55].
يرتبط سرُّ الاختيار بسرّ الخلق؛ وقد صاغ سرُّ الاختيار بشكل خاص، تاريخَ الشعب الذي له إبراهيم كأب روحيّ بحكم إيمانه. إلا أن سرّ الاختيار هذا -بواسطة هذا الشعب، الذي يسير عبر تاريخ العهدين القديم والجديد- يخصّ كلّ إنسان، والعائلة البشرّية الكبرى باسرها: "أَحبَبتُك حُبّاً أَبَدِيّاً فلِذلك اجتَذَبتُك بِرَحمَة"[56]. "وإِنِ ابتَعَدَتِ الجِبالُ ... فإِنَّ رَأفَتي لن تَبتَعِدَ عنكِ وعَهدَ سَلامي لن يَتَزَعزَع"[57]. هذه الحقيقة التي أعلنت يومًا لأسرّائيل، تحمل نظرة مسبقة للتاريخ بأكمله: إستباق زمنيّ وأخرويّ[58] في آن. يكشفُ المسيحُ عن الآب، في هذا المنحى وعلى أرضيّة مُعدّة مسبقًا، كما تُظهر صفحات العهد القديم العديدة. عند نهاية هذا الكشف، يقول المسيح عشيّة موته للرسول فيلبس الكلمات الشهيرة: "إِنِّي معَكم مُنذُ وَقتٍ طَويل، أَفلا تَعرِفُني، يا فيلِبُّس؟ مَن رآني رأَى الآب"[59].
5. التشابه
على عتبة العهد الجديد، يسلّطُ إنجيلُ القدّيس لوقا الضوءَ على التوافق اللافت بين قولين عن الرحمة الإلهية، يرنّ فيهما صدى تقليد العهد القديم بأسره. وفيه يتمّ التعبير تمامًا عن المصطلحات المستخدمة في الأسفار القديمة. ها إن مريم تدخل بيت زكريا وتعظّم الرّب بكلّ جوارحها من أجل "رحمته" التي تصل "إلى أجيال وأجيال" للذين يتّقونه. وها هي تذكّر من ثمّ، باختيار اسرائيل، فتجاهر بالرحمة التي "يذكرها" الربّ منذ الأزل، هو الذي إختارها[60]. وفيما بعد، حين ولد يوحنّا المعمدان، وفي البيت عينه، يمجّد أبوه زكريا الرحمةَ التي أَظهَرَها "لآبائِنا وذَكَرَ عَهده الـمُقَدَّس"[61].
تصبح هذه الصورة الموروثة من العهد القديم أبسط وأعمق في تعليم المسيح ذاته. وقد يكون هذا أكثر وضوحًا لا سيّما في مثل الإبن الضالّ[62]، حيث يتمّ التعبير عن جوهر الرحمة الإلهية، بالرغم من عدم وجود كلمة "رحمة"، بطريقة شفّافة تمامًا. وهذا ينجم عن المثل المُعطى، أكثر منه عن التعابير الواردة في أسفار العهد القديم، وهو يساعد على فهمٍ أفضل لسرّ الرحمة، هذه الدراما العميقة التي تدور أحداثها بين محبّة الآب وتبذير الابن وخطيئته.
هذا الولد الذي حصل من أبيه على الميراث الذي يعود له، والذي ترك المنزل الوالدي وذهب يبدّد ماله في بلاد بعيدة "في عيشَةِ إِسراف"، يمثّل، بمعنى ما، إنسانَ كلّ الأزمنة، بدءًا من الإنسان الأوّل الذي بدّد ميراث النعمة والبرّ الأصليّين. ويتّسع التشابه هنا إلى حدّ كبير. فالمثل يطال، بطريقة غير مباشرّة، أيَّ خرقٍ لعهدِ المحبّة، أيّ فقدان للنعمة، وأيّ خطيئة. ولا تبرز هنا عدمُ أمانة شعب إسرائيل، كما في التقليد النبوي، بالرغم من أن مثل الإبن الضالّ، يمكن أيضًا أن ينطبق عليها. حين أدرك الابن أنه "أَنفَقَ كُلَّ شَيء ... أَخَذَ يَشْكو العَوَز"، علاوة على المجاعة الشديدة التي أصابت "ذلكَ البَلَدَ" الذي سافر إليه بعد مغادرته البيت الأبويّ. عندها، "كانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه" حتى "مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ تَأكُلُه الخَنازيرُ" التي كان يرعاها لحساب "رَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد". ولكن حتّى، هذا لم يُسمَح له به.
ينتقل التشابه بوضوح نحو باطن الإنسان، فالإرث الذي أخذه من أبيه كان يقتصر على الخيرات الماديّة، ولكن الأهم من تلك الخيرات، هي كرامته كإبن في البيت الأبوي. فالحالة التي وصل اليها، بفقده كلّ أمواله، كان عليها أن تجعله يدرك كرامة البنوّة التي خسرّها، غير أنه لم يفكّر بذلك سابقًا، عندما طلب من أبيه حصّته من الميراث، للذهاب بعيدًا. ويبدو إنه لم يكن يدرك خطورة ذلك عندما قال في نفسه: "كم من الأُجَراء عند أبي يفضل عنهم الخبز وأنا هنا أتضوّر جوعًا". يقيس نفسه على قياس ما خسر من الخيرات التي لم يعد "يملكها"، في حين أن الأُجَراء في بيت أبيه "يمتلكونها". هذه الكلمات تعبّر عن موقفه من الخيرات الماديّة. بيد أن هذه الكلمات تخبّئ وراءها دراما الكرامة المفقودة، واليقين بخسارة الصفة البنويّة.
وعندها، يتّخذ القرار: أريد أن "أَقوم وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ"[63]. إنها أقوال تكشف المشكلة الجوهريّة بعمق أكبر. في الضائقة المالية التي حلّت بالإبن الضالّ، بسبب طيشه وخطيئته، قد نضج كذلك معنى الكرامة الضائعة. فعندما قرّر العودة الى البيت الأبوي والطلب من أبيه أن يقبله، ليس بموجب حقوقه كإبن، إنما بصفة أجير، يبدو ظاهريًا أنه مدفوع من حالة الجوع والبؤس التي سقط فيها، بيد أنّ هذا الدافع مربوط بوعي لخسارة أكبر: أن يكون أجيرًا في بيت أبيه، هو حتمًا إهانة كبيرة وخزي. غير أن الإبن الضالّ مستعدّ لمواجهة هذه الإهانة وهذا الخزي. إنه يدرك أنه لم يعد لديه الحقّ سوى بأن يكون أجيرًا في بيت أبيه. إتخذ قراره مدركًا تماما ما يستحقّه وما يحقّ له وفقًا لقواعد العدالة. يُظهر هذا التحليل بوضوح أنّ، من صميم وعي الابن الضالّ، ينبع حسّ الكرامة الضائعة، تلك الكرامة التي تنبع من الرابط بين الابن وأبيه. وبعد أن اتّخذ هذا القرار، انطلق في الطريق.
لا نجد، في مثل الابن الضالّ، حتّى مرّة واحدة كلمة "عدالة"؛ ولا حتّى في النص الأصليّ، كلمة "رحمة". غير أن العلاقة بين العدالة والمحبّة التي تظهر كرحمة، يتضمّنها محتوى المثل بدقّة كبيرة. يظهر جليًّا، أن المحبّة تتحوّل الى رحمة عندما يجب تخطّي مبدأ العدالة الدقيق، والذي غالبًا ما يكون صارمًا للغاية. بعد أن بدّد الابن الضالّ الخيرات التي أخذها من أبيه، يستحق، بعد عودته، أن يكسب عيشه بالعمل في البيت الأبوي كأجير ليحسّن وضعه المادي، تدريجًا، ولكن، بدون شك، أقلّ بكثير مما كان عليه، قبل تبديده أمواله، فهذا ما قد تقتضيه العدالة في هذا المجال خاصة وان هذا الإبن لم يبددّ حصّته في الميراث فحسب، بل قد أصاب أباه في الصميم وأهانه بسبب سلوكه. وهذا التصرّف، الذي باعترافه، حرمه من كرامة البنوّة، ما كان ليلقى اللامبالاة من قبل أبيه الذي كان يتألّم بسببه ويشعر بالإساءة. إلاّ أن الأمر كان يتعلّق، في النهاية، بابنه، ولا يمكن لأيّ تصرّف أن يفسد هذه العلاقة أو يدمّرها. والابن الشاطر يعي ذلك، وهذا الوعي بالذات يُبيّن له بوضوح كرامتَه المفقودة، ويجعله يقيّم بشكل صحيح المكانة التي ما زالت له في بيت أبيه.
6. تركيز خاص على الكرامة الإنسانيّة
يسمحُ لنا الوصفُ الدقيق لحالة الابن الضالّ النفسية أن نفهم بالتحديد ما هي الرحمة الإلهية. ما من شكّ أنّ صورة ربّ العائلة، عبر هذه المقاربة البسيطة، ولكن الثاقبة، تكشِفُ لنا اللهَ كأب. فتصرّف الأب وكلّ أعماله في المثل المذكور، التي تظهر موقفه الباطن، تخوّلنا استعادة مختلف جوانب مفهوم العهد القديم للرحمة في ملخّصٍ جديد كليًّا، مليءٍ بالبساطة والعمق. فوالد الابن الضالّ هو أمينٌ لأبوّته، وللحبّ الذي كان يغمر به ابنه على الدوام. ولا يعبّر فقط عن هذه الأمانة في المثل، عبر استعداد الآب الفوري لاستقبال ابنه لمّا عاد هذا الأخير الى البيت بعد تبديده ميراثه، بل بالأكثر، من خلال ذاك الفرح وذاك الاحتفال السخيّ بالابن الشاطر، بعد عودته، لدرجة أنها تُثير معارضة الأخ البكر وغيرته، هو الذي لم يبتعد يوماً عن ابيه ولم يغادر البيت مطلقًا.
يتمّ التعبير في الوقت عينه عن أمانة الأب لذاته -جانب معروف في العهد القديم بالعبارة "رفق" - بطريقة مفعمة بالعاطفة. نقرأ بالفعل، أنّ الأب، لما رأى الإبن الضالّ عائدًا إلى البيت "تملّكته الشفقة وركض اليه وعانقه بحنان"[64]. لقد تصرَّفَ الأب، بالتأكيد، بدافع حنان عميق، مما قد يفسّر أيضًا سخاءه تجاه ابنه، ذاك السخاء الذي أغاظ أخاه البكر للغاية. إلاّ انه يجب التعمّق في البحث عن دوافع هذه العاطفة: فقد أدرك الأب أن قيمة أساسية قد سَلُمَت وهي إنسانيّة ابنه على الرغم من أنّ هذا الأخير قد بدّد ماله، إلاّ أن إنسانيته بقيت مصونة. بل أكثر من ذلك، لقد بدا وكأنه استعاد إنسانيته، وكلام الأب لإبنه البكر يوضح ذلك: "كان يجب أن نتنعّم ونفرح لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وضالًا فوُجد"[65]. وفي الفصل الخامس عشر من إنجيل القدّيس لوقا نقرأ مثل النعجة الضالّة[66] ومثل الدرهم الذي عُثِر عليه ثانية[67]. ويبرز في كلّ مرّة الفرحُ عينه كما في مثل الإبن الضالّ. ان أمانة الأب لذاته مركّزة كليًّا على إنسانيّة الإبن الضال وعلى كرامته. هكذا يفسرّ بالأخص انفعاله الفَرِح، لحظة العودة إلى البيت.
ويمكن القول إن تعمّقنا أكثر، ان حبّ الأب لابنه، هذا الحبّ الذي ينبع من صميم الأبوّة بالذات، يلزم الأب نوعًا ما، بالحرص على كرامة ابنه. هذا الحرص يشكّل مقدار حبّه، هذا الحبّ الذي كتب عنه القديس بولس فيما بعد "المحبّة طويلة الإناة، المحبّة تخدم ... ولا تسعى الى مصلحتها الخاصة، لا تغضب، لا تعنى بالشرّ ... تفرح بالحق... ترجو كلّ شيء، وتتحمّل كلّ شيء"، و "المحبّة لا تزول"[68]. وللرحمة - كما أشار اليها المسيح، في مثل الإبن الضالّ - الشكل الباطني للحبّ الذي يُدعى في العهد الجديد: محبة. وهذا الحبّ يمكن أن يحنو على كلّ ابن ضالّ، وعلى كلّ بؤس بشرّي وبخاصة على كلّ بؤس خلقيّ، وعلى الخطيئة. وفي هذه الحالة، لا يشعر المشمول بالرحمة بأنّه ذليل، بل كمن وُجد من جديد " وأُعيدَ اعتباره ". يُظهر له الأب، قبل كلّ شيء، فَرحه لأنه "وُجِدَ من جديد" وعاد الى الحياة. هذا الفرح يشير إلى أن قيمته بقيت سليمة: إذ إن ابنًا ولو ضالاً، لا يزال بالفعل ابن أبيه، وهذا الفرح يشير، علاوة على ذلك، إلى خيرٍ وُجِدَ من جديد، وهو في مثل الإبن الضالّ، العودة الى حقيقة ذاته.
إنّ ما جرى بين الأب وابنه، في مَثَل المسيح، لا يمكن فهمه "سطحيًا". غالبًا ما تكون أحكامنا المسبقة عن الرحمة نتيجة تقييم خارجيّ صرف، وقد يحدث لنا عندما نعتبر الأشياء هكذا، أن نشعر، لاسيما في الرحمة، بعدم المساواة بين الذي يهبها والذي يتلقاها. وبالتالي نكون مستعدّين للإستناج من ذلك، أنّ الرحمة تهين متلقّيها وتهين كرامة الإنسان. يدلّ مثل الإبن الضالّ على أن الواقع مختلف: علاقة الرحمة تقوم على الخبرة الجماعية لهذا الخير الذي هو الإنسان، وعلى الخبرة الجماعيّة للكرامة الخاصّة به. هذه الخبرة المشتركة، تجعل الابن الشاطر يرى نفسه وأعماله في ضوء الحقيقة الكاملة، (هكذا رؤيا في الحقيقة هي تواضع أصيل). وبسبب ذلك، بالتحديد، يصبح الابن الضالّ بالنسبة الى أبيه، ثروة جديدة: عندها يرى الأب بوضوح الخير الذي تحقّق بفضل النور السرّي للحقيقة وللحبّ، لدرجة أنه يبدو وكأنه نسي كلّ الشرّ الذي اقترفه إبنه.
إن مثل الإبن الضالّ يعبّر، بطريقة بسيطة، ولكن عميقة عن حقيقة الارتداد.فهو التعبير الأكثر واقعيّة عن عمل الحبّ وحضور الرحمة في عالم البشر. ولا يكمن مفهوم الرحمة الحقيقي والخاص، فقط في النظر الى الداء الروحي أو الجسدي أو المادي، مهما كان نافذًا ومفعمًا بالتعاطف: الرحمة تتجلّى بمظهرها الخاص والحقيقي، عندما تقيّم من جديد، عندما ترقّي، وتستخرج الخير من كلّ اشكال الشرّ الموجودة في العالم وفي الإنسان. وفق هذه النظرة، تشكّل الرحمة المضمون الأساسي لرسالة المسيح المسيحانيّة والقوّة المكوّنة لرسالته. وهكذا كان الرسل والتلاميذ يفهمونها ويعيشونها. ولم تكفّ عن الظهور في قلوبهم كما في أعمالهم كتعبير عن دينامية الحبّ الذي "لا يدع الشرّ يقهره"، بل "يقهر الشرّ بالخير"[69]. يجب الكشف من جديد عن وجه الرحمة الحقيقي. فبالرغم من الأحكام المسبقة المتعدّدة، تبدو كضرورة ملحّة بشكل خاص لعصرنا هذا.
7. الرحمة المتجليّة في الصليب والقيامة
تنتهي رسالة المسيح المسيحانيّة وأعماله ونشاطاته بين الناس، بالصليب والقيامة. إن أردنا التعبيربالكامل عن حقيقة الرحمة، كما أوحي بها بالكامل في تاريخ خلاصنا، علينا أن نسبر غور هذا الحدث الأخير الذي هو القيامة، والذي حدّده التعبير المجمعي، بدقة، كسرّ فصحي. وعند هذه النقطة من تأمّلاتنا، علينا أن نقترب أكثر من محتوى الرسالة العامّة "مخلّص البشرّية". وبالفعل، إن كانت حقيقة الخلاص، في بعدها الإنساني، تكشف عن عظمة الإنسان المنقطعة النظير، الذي استحق مثل هذا المخلّص العظيم[70]، وبُعد الخلاص الإلهي يكشف في الوقت عينه بطريقة أكثر واقعية و"تاريخية" عمقَ الحبّ الذي لا يتوانى، أمام تضحية الابن الفائقة لإرضاء أمانة الخالق والآب إزاء الناس الذين خلقهم على صورته، واختارهم، منذ "البدء"، في إبنه يسوع، للنعمة والمجد.
إن أحداث يوم الجمعة العظيمة، وقبلها الصلاة في الجسمانية، تُدخِل تغييرًا أساسيًا في مسار وحي الحبّ والرحمة لرسالة المسيح المسيحانيّة. ذاك الذي "مضى فاعلاً الخير ومعيدًا الصحة للسقماء"[71] و"شافيًا كلّ مرض وضعف"[72]، يبدو الآن هو نفسه مستحقًّا أعظم رحمة، ومناشدًا الرحمة، لمّا قُبِض عليه، وشُتِمَ، وحُكِمَ عليه، وجُلِدَ، وكُلّل بالشوك، وعندما سمّر على الصليب، ولفظ أنفاسه الأخيرة، بآلام رهيبة مبرحة[73]. ففي هذه اللحظات خاصة يستحق رحمة البشر الذين غمرهم بنعمه، ولكنه لا يحصل عليها. حتى الذين هم أقرب الناس إليه، لم يعرفوا كيف يحمونه ويخلصونه من أيدي ظالميه. في هذه المرحلة الأخيرة من المهمة المسيحانيّة اكتملت في المسيح أقوال الأنبياء، وخاصة أقوال أشعيا فيما يخصّ خادم يهوه: "في جراحه شفاءنا"[74].
والمسيح، كإنسان يتألّم حقيقة، وبشكل رهيب، في بستان الزيتون وعلى الصليب، يتوجّه إلى الآب، إلى هذا الآب الذي أعلن حبّه للبشر، وعرّف عن رحمته عبر كلّ أعماله. لكنّه لم يُعفَ، حتّى هو، من عذاب الموت المرير على الصليب: "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا"[75] على قول القديس بولس، ملخّصًا، بكلمات قليلة، عمق سرّ الصليب كلّه والبُعد الإلهي لحقيقة الفداء في آن. بيد أن هذا الفداء يكشف، بشكل قاطع ونهائي، قداسة الله التي هي تمام الكمال المطلق: تمام العدالة والحبّ، بما أنّ العدالة تقوم على الحبّ وتصدر عنه وتتوق اليه. والعدالة المطلقة تعبّر عنها آلام المسيح وموته، بواقع أن الآب لم يوفّر ابنه بل "جعله خطيئة من أجلنا"[76]، إذ ان المسيح احتمل الآلام والصلب بسبب خطايا البشرّية. هناك بالفعل "فيض للبرّ"، لأنه قد تمّ التكفير عن خطايا الإنسان بذبيحة الإنسان-الأله. إلاّ أن هذه العدالة التي هي، بالمعنى الحقيقي، "على قياس" الله، تولد بكلّيتها من الحبّ، حبّ الآب والابن، وتثمر بكلّيتها في الحبّ. لأجل هذا بالتحديد، إن العدالة الإلهية الموحى بها في صليب المسيح هي "على قياس الله، لأنها تولد من الحبّ وتتمّ في الحبّ، حاملة ثمر الخلاص. إن بُعد الفداء الإلهي لا يتحقّق فقط بمجرّد التكفير عن الخطيئة إنما بإعادة القوّة الخلاّقة للحبّ، تلك القوّة التي بواسطتها يتمكّن الإنسان من بلوغ ملء الحياة والقداسة التي مصدرها الله. وهكذا يحمل الفداء في ذاته الكشف عن ملء الرحمة.
يشكّل السرّ الفصحيّ ذروة هذا الوحي، وبسطٌ للرحمة القادرة على تبرير الإنسان، على إعادة البرّ أيّ ذاك الترتيب الخلاصيّ الذي أراده الله منذ البدء في الإنسان، ومن خلال الإنسان في العالم. يتوجّه المسيح المتألّم بطريقة خاصّة إلى الإنسان وليس فقط إلى المؤمن. الرجل غير المؤمن أيضًا يمكنه أن يكتشف في ذاته بلاغة التضامن مع مصير الإنسان، كما يمكنه أن يكتشف أيضًا الكمال المتناغم للهبة المتنزّهة لقضية الإنسان والحقيقة والحبّ. إلاّ أنّ البعد الإلهي للسرّ الفصحي يذهب الى أبعد. فالصليب المرفوع على الجلجلة، والذي عليه أجرى حواره النهائي مع الآب، ينبثق من صميم الحبّ بالذات، الذي قد مَنَّ اللهُ به على الإنسان المخلوق على صورته، بحسب تدبير الآب الأزليّ. إن الله، كما كشفه المسيح، ليس فقط في علاقة وثيقة مع العالم، كونه الخالق والمصدر النهائي للوجود. إنّه أب أيضًا، فهو متّحد بالإنسان الذي دعاه الى الوجود في العالم المرئي، متّحد به بعلاقة أعمق من علاقة الخلق. أنه الحبّ الذي لا يخلق الخير فقط، بل الذي يجعل الخليقة تشارك في حياة الله بالذات: الآب، والابن والروح قدس. وبالفعل، إن الذي يحبّ يتوق الى بذل ذاته.
إن صليب المسيح في الجلجلة يرتفع، على طريق التبادل الرائع، الطريق الذي يعتمده الله ليكشف عن ذاته للإنسان، الذي يتضمّن، في الوقت عينه، النداء الذي وُجِّه للإنسان كي يشارك -إذ يقدّم ذاته لله ومعها كلّ العالم المرئي- بالحياة الإلهية؛ كي يشارك أيضًا بصفته ابنًا بالتبني، في الحقيقة وفي الحبّ اللذين هما في الله ومن الله. على درب الاصطفاء الأزلي للإنسان لتكون له كرامة ابن الله بالتبني، يرتفع بالتحديد في التاريخ، صليب المسيح، الابن الوحيد الذي، وهو "نور من نور، إله حق من إله حق"[77]، جاء يعطي الشهادة الأخيرة لعهد الله الرائع مع البشرّية، لعهد الله مع الإنسان، مع كلّ إنسان. هذا العهد، القديم مثل الإنسان، إذ انه يعود الى سرّ الخليقة بالذات، والمتجدّد مرات عديدة، مع شعب واحد مختار، هذا العهد هو أيضًا العهد الجديد والنهائي، وقد أبرم هناك على الجلجلة، ولم يعد محصورًا بشعبٍ واحد، بإسرائيل، بل أصبح للجميع ولكلّ إنسان.
ماذا يقول لنا صليب المسيح، الذي يمثّل الكلمة الأخيرة لرسالته ومهمّته المسيحانيّة، إن جاز التعبير؟ بالتأكيد، إنها ليست بعد الكلمة النهائية لإله العهد، التي لن تلفظ إلاّ على هدى أنوار ذلك الفجر، حيث النسوة، ثم الرسل الذين وفدوا الى قبر المسيح المصلوب، ووجدوه فارغًا، سيسمعون، للمرّة الأولى، هذه البشارة: "قد قام من بين الأموات". وسوف يرّددونها بدورهم للآخرين، وسيكونون شهود المسيح القائم من القبر. إلاّ أنه، حتّى في تمجيد ابن الله، لا يزال الصليب حاضرًا. هذا الصليب الذي -عبر الشهادة المسيحانيّة للإنسان - الابن الذي مات عليه - يتكلّم، ولا يتوقّف أبدًا عن الكلام عن الله – الآب المُخلِص تمامًا لحبّه الأزلي للإنسان، إذ "إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ – يعني الإنسان في العالم - حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة"[78]. فالأيمان بالابن المصلوب يعني "رؤية الآب"[79]، يعني الإيمان بأن الحبّ هو حاضر في العالم وأن هذا الحبّ هو أقوى من كلّ أنواع الشرّور التي يغوص فيها الإنسان والبشرّية والعالم. فالإيمان بحبّ كهذا، يعني الإيمان بالرحمة الإلهية. وهذه الرحمة تمثّل بالفعل البُعد المحتّم للحبّ، إنها بمثابة اسمه الثاني، وهي، في الوقت عينه، تمثّل طريقته الخاصة بإظهار ذاته وتحقيقها إزاء الشرّ الموجود في العالم، والذي يمسّ بالإنسان ويحاول محاصرته، ويتسرّب حتّى الى قلبه، ويمكنه أن "يهلكه في جهنّم"[80].
8. حبّ أقوى من الموت وأقوى من الخطيئة
إن صليب المسيح على الجلجلة هو أيضًا شهادة على قوّة الشرّ، تجاه ابن الله بالذات، تجاه الوحيد الذي، من بين أبناء البشر، كان بطبيعته بريئًا وطاهرًا وخاليًا من كلّ خطيئة، والذي كان مجيئه الى العالم معفيًا من معصية آدم وتبعات الخطيئة الأصليّة. وها إنّ العدالة تتحقّق بالمسيح، بفضل تضحيته وطاعته "حتى الموت"[81]. هو الذي بدون خطيئة "جعله الله خطيئة من أجلنا"[82]. تتحقّق العدالة أيضًا في الموت، الذي، منذ بدء التاريخ البشرّي، تحالف والخطيئة. وتحقيق العدالة هذا يتمّ بثمن الموت، موت الذي كان بدون خطيئة ووحده يستطيع –بموته- أن يتغلّب على الموت بالموت[83]. وهكذا فصليب المسيح -المساوي للآب في الجوهر- الذي فوقَه أنصفَ الابنُ الله، هو أيضًا كشفٌ جوهريّ للرحمة، أي للحبّ الذي، عبر التاريخ، قاوم ما يكوّن بالذات أصل الشرّ: قاوم الخطيئة والموت.
إن الصليب هو الوسيلة الأكثر عمقًا التي بها تنحني الألوهة على الإنسان، وبالأخصّ على ما يعتبره الإنسان، في الضيق والأوقات الصعبة، قدره المشؤوم. يشبه الصليب لمسة من الحبّ الأبدي لجراح الإنسان الأكثر إيلامًا في وجوده على الأرض، وهو أيضًا الانجاز التام للبرنامج المسيحاني الذي أدلى به المسيح في مجمع الناصرة[84]، والذي كرّره أمام موفدي يوحنا المعمدان[85]. يقوم هذا البرنامج، وفقًا لنبوءات آشعيا[86] القديمة، على كشف الحبّ الرحيم تجاه الفقراء والمتألّمين والمسجونين والعميان والمضطّهدين والخطأة. إنّ السرّ الفصحي، قد تخطّى حدود الشرّ المتعدّد، الذي يشارك فيه الإنسان فترة وجوده الأرضي. إن صليب المسيح يُفهمنا في الواقع أعمق جذور الشرّ المتأصّلة في الخطيئة والموت، ويصبح بالتالي علامة أخرويّة. ففي في نهاية الأزمان فقط، وعند التجديد النهائي للعالم، ينتصر الحبّ، في جميع المختارين، على أعمق مصادر الشرّ، مانحاً ملكوت الحياة والقداسة والخلود الممجّد، كثمرة ناضجة بالتمام. وأساس هذا الإتمام الأخرويّ يكمن منذ الآن في صليب المسيح وموته. ومجرّد أن المسيح قد "قام في اليوم الثالث"[87] يمثّل العلامة النهائية للرسالة المسيحانيّة، علامة تتوّج كشف المسيح الكامل للحبّ الرحيم في العالم الخاضع للشرّ. ويشكّل في الوقت نفسه، العلامة التي تبشرّ مسبقًا، "بسماء جديدة وأرض جديدة"[88] عندما "سيَمسَحُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم. ولِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآَن، لأَنَّ العالَمَ القَديمَ قد زال"[89].
في الإتمام الأخروي، سوف تظهر الرحمة كمحبّة، في حين أنه على المحبة أن تظهر في الزمن، في تاريخ البشرّية الذي هو أيضًا تاريخ الخطيئة والموت، كرحمة، وأن تتحقّق بهذا الشكل. ويصبح هكذا برنامج المسيح المسيحاني -برنامج رحمة- برنامج شعبه وبرنامج الكنيسة. وفي صلب هذا البرنامج هناك دوما الصليب، إذ إن فيه يبلغ الكشف عن المحبة الرحومة ذروته. وطالما لم ينته "العالم القديم"[90] يبقى الصليب ذاك "المكان" الذي يمكن أن تطبّق عليه كلمات القديس يوحنا الأخرى في سفر الرؤيا: "هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي"[91]. ويكشف الله أيضًا بالأخصّ عن رحمته، عندما يحثّ الإنسان على إظهار رحمته تجاه ابنه، تجاه المصلوب.
المسيح المصلوب هو الكلمة التي لا تزول[92]، هو الذي يقف على الباب ويقرع قلب كلّ إنسان[93]، دون أن يكبح حريّته، إنّما يسعى لاستمداد المحبّة من هذه الحرّية بالذات، المحبّة التي ليست فعل تضامن مع ابن الإنسان المتألّم وحسب، إنما أيضًا شكلاً من أشكال "الرحمة" التي يظهرها كلّ منّا لابن الآب الأزلي. في برنامج المسيح المسيحانيّ هذا، وفي استعلان الرحمة بواسطة الصليب، هل يمكن لكرامة الإنسان أن تنال احترامًا أكبر من هذا أو أن تُرفع أكثر، إذ ان هذا الإنسان، وقد نال الرحمة، هو أيضاً، في الوقت عينه وبشكل من الأشكال، مَن "يهب الرحمة" ؟
وفي النهاية، ألا يتّخذ المسيح موقفًا من الإنسان، حين يعلن: "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه"[94]. وكلامه في خطبة الجبل: "طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"[95]، ألا يشكّل كلّ هذا، بمعنى ما، خلاصةً للبشارة بأكملها، ولكلّ هذا "التبادل الرائع" الذي تتضمّنه، والذي هو شريعة بسيطة، قويّة و"عذبة" معًا، لمشروع الخلاص بذاته؟ ألا تكشف كلمات عظة الجبل، التي تُظهِر منذ نقطة الانطلاق، طاقات "القلب البشرّي" (أن يكون رحومًا)، وفقًا للمنظور عينه، عمق سرّ الله: وحدة الآب والابن والروح القدس تلك التي لا يُسبَر غورها والتي فيها المحبّة الحاوية للبرّ، تولّد الرحمة التي بدورها، تظهر كمال البرّ ؟
إنّ السرّ الفصحيّ، هو المسيح في ذروة كشف السرّ الإلهيّ غير المدرك. حينها بالذات تتمّ بالكامل أقوال المسيح في العلّية: "من رآني رأى الآب"[96]. بالفعل إن المسيح، الذي "جاد به الآب"[97] من أجل الإنسان -والذي في آلامه وعذابه على الصليب لم يتلقَّ الرحمة البشرّية من أحد- كشف بقيامته عن ملء المحبّة التي يكنّها له الآب، ومن خلاله، لجميع البشر. "إنه ليس إله الأموات بل إله الأحياء"[98]. إن المسيح ، بقيامته، كشف عن إله الحبّ الرحوم، لأنه قَبِلَ بالتحديد الصليب كطريقٍ نحو القيامة. لهذا، عندما نتذكّر صليب المسيح وآلامه وموته، ينصّب إيماننا ورجاؤنا على القائم من بين الاموات: على ذاك المسيح الذي، "في مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها ... جاءَ ووَقَفَ بَينَهم ... ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: “خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم“"[99].
ها إن ابن الله يختبر بقيامته الرحمة -بشكل جذريّ-، أيّ محبّة الآب التي هي أقوى من الموت. والمسيح ذاته أيضًا، إبن الله الذي، في ختام رسالته المسيحانيّة -وبعد الختام بنوع ما- يكشف ذاته، عن أنه ينبوع الرحمة الذي لا ينضب، والمحبّة التي، في منظور لاحق لتاريخ الخلاص في الكنيسة، عليها دومًا أن تبيّن أنّها أقوى من الخطيئة. إنّ المسيح الفصحيّ يمثّل التجسّد النهائي للرحمة وعلامتها الحيّة: علامة للخلاص التاريخي والأخروي معًا. من المنظار عينه، إنّ ليتوجيّة الزمن الفصحيّ تجعلنا نردّد كلام المزمور: "بِمَراحِمِ الرَّبِّ لِلأبدِ أَتَغنَى"[100].
في نشيد الكنيسة الفصحيّ هذا، يرنّ صدى كلمات مريم، عند زيارتها لأليصابات زوجة زكريا، في ملء محتواها النبوي: "رحمته الى جيل فجيل"[101]. تكشف هذه الكلمات، منذ لحظة التجسّد، عن منظور جديد لتاريخ الخلاص. ويصبح هذا المنظور، بعد قيامه المسيح، جديدًا على المستوى التاريخيّ، وفي الوقت عينه، على المستوى الأخروي. وتتعاقب مذاك، وبشكل متزايد على الدوام، أجيالٌ بشرّية جديدة في العائلة البشرّية الكبرى؛ وتتوالى أيضًا أجيال من شعب الله، موسومة بإشارة الصليب والقيامة، و"مطبوعة" بوسم[102] سرّ المسيح الفصحي، الذي هو كشف مطلق لهذه الرحمة، التي أعلنتها مريم على عتبة بيت قريبتها: "ورحمته من جيل الى جيل"[103].
ومريم، هي أيضًا تلك التي، بطريقة خاصّة واستثنائيّة -ولا مثيل لها- قد اختبرت الرحمة، وفي الوقت نفسه، ودومًا بطريقة استثنائيّة، جعلت ممكنة، بتضحية القلب، مشاركتها في كشف الرحمة الإلهية. وترتبط هذه التضحية ارتباطًا وثيقًا بصليب ابنها، الذي وجُبَ أن تحضر عند أقدامه على الجلجلة. تضحية مريم هذه، هي مشاركة خاصّة في كشف الرحمة، أي وفاء الله المطلق لحبّه، للعهد الذي أراده منذ الأزل، وأبرمه في الزمن مع الإنسان، مع الشعب، مع البشرّية؛ إنها المشاركة في الوحي الذي تمَّ بشكل نهائيّ عبر الصليب. ما من أحد اختبر سرّ الصليب مثل أمّ المصلوب، اختبر اللقاء المؤثر بين العدالة الإلهية المتسامية و"الحبّ": تلك "القبلة" التي منحتها الرحمة للعدالة[104]. ما من أحد مثل مريم استقبل بعمق هذا السرّ في قلبه: البعد الإلهي حقًّا للخلاص الذي تمّ على الجلجلة عبر موت ابنها، مصحوبًا بتضحية قلبها الوالدي والـ "نعم" النهائي الذي قالته.
فمريم هي إذًا التي، أكثر من أيّ كائن آخر، تعرف سرّ الرحمة الإلهية حقّ المعرفة. تدرك ثمنه وتعرف كم هو كبير. ولذا ندعوها أمّ الرحمة: سيّدة الرحمة أو أمّ الرحمة الإلهيّة. لكلّ من هاتين الصفتين معنىً لاهوتيّ عميق، لأنها تعبّر عن الاستعداد الخاص لنفسها، لكامل شخصيّتها، عبر قدرتها على اكتشاف -أوّلاً من خلال أحداث اسرائيل المعقّدة، ثمّ من خلال الأحداث التي تعني كلّ إنسان، وكلّ البشرّية- هذه الرحمة التي يتشارك فيها الجميع "من جيل إلى جيل"[105]، بحسب تدبير الثالوث الأقدس الأزلي.
بيد أن هذه الألقاب التي نعطيها لأم الله تتحدّث عنها خاصة، كأم المصلوب والقائم من بين الأموات؛ وكالتي، كونها اختبرت الرحمة، بطريقة استثنائيّة، "تستحقّ" هذه الرحمة بالقدر ذاته وطوال حياتها الأرضية، ولاسيّما عند أقدام صليب ابنها؛ وأخيرًا تحدّثنا هذه الألقاب عنها كالتي بمشاركتها، الخفية والتي لا تضاهى معًا، في مهمّة ابنها المسيحانيّة، دُعيت بطريقة خاصة لتجعل هذا الحبّ الذي أتى ليكشفه لنا أقرب من البشر: حبّ يتجلّى بالكامل تجاه المتألمّين والفقراء والمسجونين والعميان والمظلومين والخطأة، كما يعلنه المسيح بعبارة نبوءة أشعيا، في مجمع اليهود في الناصرة أوّلاً[106]، ثمّ إجابة لموفدي يوحنّا المعمدان[107].
وقلب أم المصلوب والقائم من الموت، كان يشارك، مريم كانت تشارك، بطريقة فريدة واستثنائيّة، في هذا الحبّ "الرحيم"، الذي يظهر خاصّة، إبان الألم الجسديّ والمعنويّ. وهذا الحبّ ما زال يظهر فيها وبواسطتها في تاريخ الكنيسة والبشرّية. وهو مُثمر حقّا إذ انه يقوم، عند أمّ الله، على لباقة قلبها الوالديّ، وحنوّها الخاصّ، ولياقتها المميّزة في ملاقاة كلّ الذين يقبلون بسهولة أكبر الحبّ الرحيم من قِبَلِ الأم. هنا يكمن أحد أكبر أسرّار المسيحية وأكثرها إحياءً، سرّ يرتبط ارتباطًا حميمًا بسرّ التجسد.
"إنطلاقاً من القبول الذي أبدته مريم بإيمانها، يوم البشارة، والذي حافظت عليه، بدون تردّد عند أقدام الصليب، كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني، أمومة مريم هذه، في تدبير النعمة، تتواصل، وبدون انقطاع، حتّى بلوغ كلّ المختارين المجد الأبديّ. وبالفعل بعد صعود مريم الى السماء، لم يتوقّف دورها الخلاصيّ: بشفاعتها المتكرّرة، لا تزال مريم تنال لنا نعمة الخلاص الأبدي. وهي تعتني، عبر حبّها الوالدي، بإخوة ابنها الذين لم تكتمل مسيرتهم على هذه الأرض، أو هم عرضة للمخاطر والتجارب، إلى أن يبلغوا الموطن السعيد"[108].
VI. " رحمة.... من جيل الى جيل"
يحقّ كلّ الحقّ أن نؤمن بأن جيلنا هو أيضًا كان مشمولاً بكلام أمّ الله، عندما مجّدت هذه الرحمة التي يشارك فيها، "من جيل الى جيل"، كلّ الذين يعيشون بخوف الربّ. كلمات نشيد مريم ذات محتوى نبويّ لا يخصّ ماضي إسرائيل وحسب بل أيضًا مستقبل شعب الله على هذه الأرض. جميعنا نحن الذين نعيش على الأرض نشكّل الجيل الذي يعي دنوّ الألفيّة الثالثة والذي يشعر مليًّا بالتحوّل الحالي للتاريخ.
ويعرف الجيل الحالي أنّه محظوظ، إذ أن التقدّم يوفّر له فرصًا كثيرة لم تكن جائزة في العقود القليلة الماضة. إن نشاط الإنسان الخلّاق، ذكاءه وعمله قد أحدثت تغييرات جذريّة في الحقل العلميّ والتقنيّ كما في الحياة الاجتماعية والثقافية. لقد بسط الإنسان سلطته على الطبيعة واكتسب خبرة أكثر تعمّقًا في قواعد تصرّفه الاجتماعي، وقد شهد سقوط وتقلّص الحواجز والمسافات التي تفصل الناس والأمم، وذلك بفضل حسّ متزايد للشموليّة، ووعي أكثر وضوحًا لوحدة الجنس البشرّي وقبول التبعية المتبادلة، في تضامن حقيقي، بفضل الرغبة –وإمكانية- بإنشاء علاقة مع إخوته وأخواته، متخطّياً الانقسامات المصطنعة التي أوجدتها الجغرافيا أو الحدود الوطنية أو العرقية. إن شبّان اليوم يعلمون بالأخصّ، أن تطوّر العلم والتقنية بإمكانه أن يوفّر، ليس فقط خيرات ماديّة جديدة، بل مشاركة أكبر في المعرفة. إنطلاقة المعلوماتية على سبيل المثال، سوف تزيد من قدرات الإنسان الإبداعيّة وتسمح بالوصول إلى الموارد الفكريّة والثقافيّة للشعوب الأخرى. سوف تشجّع أيضًا تكنولوجيات التواصل الحديثة على مشاركة أكبر في الأحداث وعلى تبادل متنامٍ للأفكار. وسوف تساعد مكتسباتُ العلوم البيولوجية والنفسية أو الاجتماعية، الإنسانَ على فهم أعمق لغنى كيانه الخاص. وإن كان صحيحًا أن تقدمًا كهذا لا يزال من امتياز الدول الصناعيّة، إلاّ أنه لا يمكن الإنكار أن مفهوم جعلِ كلّ الشعوب والدول تستفيد منه لن يبقى وهمًا عندما تتوفّر إرادة سياسيّة حقيقيّة لهذه الغاية.
ولكن، إلى جانب ذلك، أو بالأحرى، في كلّ ذلك، هناك في الوقت عينه صعوبات، لا بل وتبدو متزايدة. هناك قلق وعجز يقضيان بإعطاء جواب جذري، يشعر الإنسان أنّه عليه إعطاءه. ولوحة العالم المعاصر تعكس أيضًا ظلالًا واختلالات ليست دائمًا سطحيّة. الدستور الرعويّ "الفرح والرجاء" للمجمع الفاتيكاني الثاني، ليس بالتأكيد الوثيقة الوحيدة التي تعالج حياة الجيل المعاصر، ولكنها وثيقة ذات أهميّة خاصّة. "في الحقيقة نقرأ فيها أنّ التخلخل الذي يعملُ في العالم الحديث لمرتبطٌ حقّاً بتخلخلٍ يتأصَّلُ في قلبِ الإنسان نفسِه، الذي تتصارعُ فيه عناصر متعدّدة. فهو مِن جهةٍ يختبرُ كخليقةٍ أنَّهُ محدودٌ في نواح عديدة، ومن جهةٍ ثانية يشعرُ بأن تطلّعاته لا حدَّ لها، وأنّه مدعوٌّ الى حياة أسمى. بما أن أمورًا عديدة تستلفته تتجاذَبُه ، فهو مرغمٌ دومًا على القيام ببعض الخيارات وعلى التخلّي عن أخرى. وأسوأ من ذلك: كونه ضعيفاً وخاطئاً، فهو غالبًا ما يفعل ما لا يريد، ولا يفعل ما يريد. وبالنتيجة أنه يتألَّمُ مِن الإنفصام في داخلِهِ، الذي يُولّد داخل الجماعات، الخصومات الجسيمة"[109].
في ختام المقدّمة نقرأ أيضًا: "... يتزايَدُ عددُ الذين يَطرحون الأسئلة الأساسية إزاء تطوّرِ العالمِ الحاضر ومنها: ما هو الإنسان؟ هل مِن مَعنى للشرِّ والألم والموت؟ هذه الثلاثة التي تبقى بالرغم من كل هذا التطوّر؟ وما نَفْعُ هذه الانتصارات التي كلّفت هذا الثمن الباهظ؟"[110].
هل أصبح مشهد التوتّرات والتهديدات الخاصة بعصرنا هذا، خمسة عشر عامًا بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، أقل إقلاقًا؟ يبدو أن الجواب هو "كلّا". بل على العكس، فالتوترات والتهديدات التي بدت في الوثيقة المجمعية، وكأنها تأخذ شكلًا فقط، ولا تظهِر بالعمق كلّ الخطر الذي تحمله، قد ظهرت بشكل أوضح خلال السنوات الأخيرة، وأثبتته بطريقة أخرى، ولا تسمح مطلقًا بمتابعة أوهام الماضي.
لذا يتنامى في عالمنا الشعور بالتهديد. ويزداد أيضًا الخوف الوجودي المرتبط خاصّة باحتمال نشوب صراع يمكن أن يؤديّ الى التدمير الجزئي الذاتي للبشرّية –كما سبق وأشرت إليه في الرسالة العامة فادي الإنسان-، بسبب الترسانات النوويّة الحالية. إلاّ أن التهديد لا يتعلّق فقط، بما قد يفعله البشر بغيرهم إذ يستخدمون التقنية العسكريّة، بل يتضمّن أيضًا أخطارًا أخرى تنتج عن حضارة ماديّة، تقبل -بالرغم من التصريحات "الأنسيّة"- بأولوية الأشياء الماديّة على الإنسان. ويخاف الإنسان المعاصر بالتالي من أنّه، باستخدام وسائل تقنية إخترعها هذا النوع من الحضارة، يصبح الأفراد والبيئات أيضًا، والجماعات، والمجتمعات، والأمم، ضحايا سوء استعمال السلطة من قبل أفراد وبيئات ومجتمعات أخرى. وتاريخ عصرنا يقدّم العديد من الأمثلة على ذلك، فبالرغم من كلّ التصريحات عن حقوق الإنسان في بعده الكلّي، أي في وجوده الجسديّ والروحيّ، لا يمكننا القول أن هذه الأمثلة ترتبط فقط بالماضي.
إنّ الإنسان خائف، وبحقّ، من أن يكونَ ضحيّة اضطهاد ينتزع منه حريته الداخلية، وإمكانية إعلان الحقيقة التي يقتنع بها، والإيمان الذي يجاهر به، وأهلية الطاعة لصوت ضميره، الذي يدلّه على الطريق السويّ. وبالفعل، إن الوسائل التقنيّة التي هي بتصرّف الحضارة الحاليّة، تخفي، ليس فقط إمكانيّة التدمير الذاتيّ الذي قد ينجم عن نزاع عسكري، بل أيضًا، إمكانية "الإخضاع المسالم" للأفراد، ولبيئات حياة، ولمجتمعات بكاملها، ولأمم، التي، مهما كان السبب، هي مزعجة لهؤلاء الذين يمتلكون هذه الوسائل، وهم مستعدون لاستخدامها، بوقاحة. ولنفكر أيضًا بالتعذيب، الذي لا يزال موجودًا في العالم، والذي تتبنّاه السلطة بشكل منهجي، كوسيلة سيطرة أو تفوّق سياسي، ويمارسه الأتباع بدون معاقبة.
وهكذا إذًا، إلى جانب الوعي على التهديد البيولوجي، ينمو الوعي على تهديد آخر، يدمّر بشكل أكبر ما هو جوهري في الإنسان، أي ما هو مرتبط حميميًا بكرامته كإنسان وحقّه بالحقيقة والحريّة.
وكلّ هذا يتوالى في إطار أسف هائل، مكوّن بفعل أنّه، بجانب الأشخاص والمجتمعات الميسورة المكتفية التي تعيش في رخاء وتخضع لعبودية الاستهلاك والتمتّع، لا تخلو العائلة البشرّية ذاتها، من أفراد ومجموعات تتضوّر جوعًا. لا تخلو من أطفال يموتون جوعًا أمام أعين أمّهاتهم! لا تخلو، في مختلف أقطار العالم، ومختلف الأنظمة الإجتماعية الإقتصادية، من مناطق كاملة تعاني من البؤس والقلّة وسوء التنمية! إن هذا الواقع معروف عالميًا. وحالة عدم المساواة بين البشر والشعوب لا تدوم وحسب بل تتزايد. في أيامنا هذه أيضاً، إلى جانب الميسورين الذين يعيشون في البحبوحة، هناك آخرون يعيشون في العوز، ويعانون من البؤس، وغالبًا ما يموتون أيضًا من الجوع؛ حتى إن عددهم يبلغ عشرات بل مئات الملايين. لذا فمصير القلق النفسي أن يصبح أكثر عمقًا. من المؤكّد أن هناك نقصًا رئيسيًا، أو بالأحرى، مجموعة نواقص، وحتّى آليّة معيبة في أساس الاقتصاد المعاصر والحضارة الماديّة التي لا تسمح للعائلة البشرّية بأن تخرج نفسها من أوضاع بهذا القدر من اللاعدل.
صورة عالمنا اليوم هذه، الذي يوجد فيه الكثير من الألم الجسديّ والمعنويّ، إلى حدّ يجعل منه أسيرَ شبكةِ تناقضاته وتوتّراته، وفي الوقت عينه، ضاجًا بالتهديدات الموجَهة ضدّ حريّة الإنسان والضمير والدين، هذه الصورة تفسرّ القلق الذي يسيطر على الانسان المعاصر.وهذا القلق لا يطال المحرومين والمظلومين فقط، بل وأولئك الذين ينعمون بالغنى والتقدّم والسلطة أيضًا. حتّى ولئن كان لا ينقص الذين يبحثون عن اكتشاف أسبابه أو مقاومته بالوسائل التي توفِّرها لهم التقنية، والغنى والسلطة، فإنّ هذا القلق، في أعماق النفس البشرّية، يتخطّى كلّ الوسائل المؤقّتة. وكما أشار اليه المجمع الفاتيكاني الثاني في تحليلاته، إن هذا القلق يتعلّق بالمشاكل الأساسية لكلّ الوجود البشرّي.هذا القلق مرتبط بمعنى وجود الانسان في العالم، وهو قلقٌ على مستقبل الانسان والبشرية جمعاء، ويفرض حلولاً قاطعة، تبدو من الآن فصاعدًا قد فرضت نفسها على الجنس البشرّي.
ليس من الصعب أن نلاحظ أن حسّ العدالة في عالمنا المعاصر قد استفاق من سباته، وعلى نطاق واسع. وهو يُبرز دون شك، ما هو معاكس للعدالة في العلاقات البشرية والفئات الاجتماعية او "الطبقات"، كما بين شعوب فرديّة ودول، وحتّى بين أنظمة سياسيّة بكاملها، و"عوالم" بأسرها. إنّ هذا التيّار المتأصّل والمتعدّد الأشكال، الذي، على أساسه، وضعَ الضميرُ المعاصرُ العدالةَ، يُثبت الصفة الاخلاقية للتوتّرات والصراعات التي تغزو العالم.
والكنيسة تشارك أناس عصرنا الرغبة الحارة والعميقة هذه في حياة عادلة من جميع النواحي، ولا تتأخّر أبدًا عن التفكير في مختلف جوانب هذه العدالة، كما تفرضها حياة الناس والمجتمعات. وهذا ما تؤكّده تنمية التعليم الاجتماعي الكاثوليكي خلال القرن الأخير. وفي سياق هذا التعليم تندرج أيضًا التربية وتنشئة الضمائر البشرّية بروح العدالة، كما والمبادرات الخاصة التي تنمو في هذا الروح، ولاسيما في إطار رسالة العلمانيين.
إلّا أنهقد يكون من الصعب ألّا نلاحظ أن البرامج التي تقوم على فكرة العدالة، والتي يجب أن تُسهم في تحقيق العدالة في الحياة الاجتماعية للأفراد، والجماعات، المجتمعات الانسانية، غالبًا ما تواجه انحرافات في تطبيقها. بالرغم من أنّ هذه البرامج تدّعي دومًا حملِ فكرة العدالة هذه، فإنّ التجربة تثبت أن القوى السلبيّة كالضغينة والحقد والقساوة، قد تغلّبت على العدالة. وتصبح عندها الرغبةُ بإذلال الخصم والحدّ من حرّيته، وحتى فرض تبعية مطلقة عليه، الدافعَ الاساسي للعمل؛ وهذا يتعارض وروح العدالة الذي بطبيعته يسعى إلى إقامة العدالة والمساواة بين الأطراف المتنازعة. هذا النوع من سوء استخدام فكرة العدالة بالذات، وتحويرها عمليًّا، يظهر كم أنّ العمل البشري يمكن أن ينحرف عن العدالة عينها، حتى ولو أُنجِزَ باسمها. وليس من العبث أن يلوم المسيح سامعيه، الأمناء لعقيدة العهد القديم، على الموقف الذي يظهره هذا الكلام: "العين بالعين والسن بالسن"[111]. تلك كانت طريقة تشويه العدالة في ذلك العصر، وما زالت الممارسات الحديثة تحذو حذوها. من الواضح بالفعل، أنّه باسم عدالة مزعومة (تاريخية مثلاً أو طبقية) يتمّ أحياناً تدمير القريب، أو قتله، أو أسره، أو تجريده من حقوقه الانسانيّة الأوّليّة. إن تجارب الماضي والحاضر تبرهن أن العدالة وحدها لا تكفي، بل يمكنها أن تؤدّي الى إنكار ذاتها وتدميرها، إن لم يُسمَح لهذه القوّة الأعمق، التي هي المحبّة، بأن تصيغ الحياة البشرّية بمختلف أبعادها. فقد كانت الخبرة التاريخية هي التي قادت الى إنشاء المبدأ التالي: ذروة الحق، ذروة اللاعدالة. إنّ هذا التأكيد لا يستخفّ بقيمة العدالة ولا يخفّف من معنى النظام الذي يرتكز عليها؛ إنما يشير فقط، وبوجه آخر، إلى ضرورة اللجوء الى هذه القوى الروحيّة الأكثر عمقًا، التي تتحكّم بنظام العدالة بالذات.
إنّ الكنيسة تشارك قلق العديد من الناس المعاصرين، واضعة نصب عينيها صورة الجيل الذي إليه ننتمي. وعليها، من ناحية أخرى، أن تقلق بشأن زوال العديد من القيم الأساسية التي تشكّل خيرًا غير قابل للجدل، ليس فقط بالنسبة للخلقيّة المسيحيّة، ولكن، بكلّ بساطة، للخلقيّة الانسانيّة، للثقافة الخلقية، كاحترام الحياة البشرّية، منذ لحظة الحمل، واحترام الزواج في وحدته اللاّانفساخيّة، واحترام الاستقرار العائلي. فالإباحية الخلقية تؤذي بشكل خاص هذا النطاق الحسّاس جدًّا للحياة والمخالطة. ويقترن هذا بأزمة الحقيقة في العلاقات الانسانية، وعدم المسؤولية في الكلام، والنفعيّة في علاقات الانسان مع أخيه الانسان، وتناقص حسّ الخير العام الأصيل، والسهولة التي تمّ فيها التضحية بهذا الأخير. وأخيرًا، هناك عمل إزالة صفة القدسيّة الذي يتحوّل الى "إزالة الصفة الانسانية"، فالانسان والمجتمع اللذان لا شيء "مقدّس" بالنسبة اليهما، ينحطّان خلقياً، بالرغم من كلّ المظاهر.
VII. الرحمة الإلهيّة في رسالة الكنيسة
ترابطًا مع صورة جيلنا هذه التي لا يمكن إلاّ أن تثير فينا قلقًا عميقًا، نستذكر الكلمات التي رنّت في نشيد مريم، عند تجسّد ابن الله، والتي تتغنّى بـ "الرحمة... من جيل الى جيل". على كنيسة زمننا الحاضر، حافظة في قلبها بلاغة هذه الكلمات المستلهمة، ومطبّقة اياها في خبرات العائلة البشرّية الكبرى وآلامها، أن تعي وعيًا خاصًّا وبمزيد من العمق، الحاجةَ لأن تشهد لرحمة الله في مختلف وجوه رسالتها، على خطى تقليد العهدين القديم والجديد، وتمثّلا قبل كلّ شيء بالمسيح يسوع بالذات، ورسله. على الكنيسة أن تشهد لرحمة الله المتجلّية في المسيح، في كامل رسالته المسيحانيّة، مجاهرة بها، أوّلاً كحقيقة إيمان خلاصيّة ضروريّة لحياة منسجمة مع الايمان، ثمّ ساعية إلى إدخالها وتجسيدها في حياة مؤمنيها، وعلى قدر الامكان، في حياة كلّ انسان ذي ارادة حسنة. وأخيرًا، يحقّ للكنيسة – إذ تجاهر بالرحمة، وهي وفيّة لها دائمًا- وعليها الواجب أن تلتمس الرحمة الالهية وتتوسّلها إزاء كلّ ظواهر الشرّ الجسدية والنفسية، وإزاء كلّ التهديدات التي تتلبّد في أفق الحياة البشرّية المعاصرة.
13. الكنيسة تجاهر برحمة الله وتعلنها
على الكنيسةأن تجاهر وتعلن الرحمة الإلهيّة في كمال حقيقتها، كما اثبته لنا الوحي. وقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نرسم أقلَّه، الخطوط الكبرى لهذه الحقيقة، التي تتجلّى، بكثير من الغنى، في الكتاب المقدّس بكامله وفي التقليد الكنسيّ. وحقيقة رحمة الله المعروضة في الكتاب المقدّس، تجد صدىً دومًا، في حياة الكنيسة اليومية، في العديد من قراءات الليتورجيا المقدّسة المتعدّدة. والشعب، في حسّه الايمانيّ الحقيقيّ، يفهمها جيّدًا، كما تشهد بذلك تعابير التقوى العديدة، الفرديّة والجماعيّة. من الصعب بالتأكيد تعداد هذه التعابير واختصارها جميعًا، إذ إن أغلبيتها محفورة بقوّة في أعماق القلوب والضمائر. وإن كان يؤكّد بعض اللاهوتيون أن الرحمة هي إحدى كبار صفات الله وكمالاته، فالكتاب المقدس، والتقليد الكنسيّ، وكلّ حياة إيمان شعب الله تشكّل شهادات لها لا تنضب. والموضوع لا يتعلّق هنا بكمال جوهر الله الغامض في سرّ الألوهة بالذات، بل بالكمال والوصف اللذين بفضلهما، يلتقي الانسان، في حقيقة وجوده الحميمة، وبشكل وثيق وكثيف، بإلهه الحي. وفقًا لكلام المسيح لفيلبس[112] إنّ "رؤيا الآب" -رؤيا الآب بواسطة الايمان- تجد في ملاقاة رحمته، لحظة فريدة من البساطة والحقيقة الداخلية، شبيهة بالتي نجدها في مثل الإبن الضالّ.
"من رآني رأى الآب"[113]. إنّ الكنيسة تجاهر برحمة الله وتعيش منها في خبرتها الإيمانية الواسعة، وفي تعليمها أيضًا، متأمّلة بالمسيح باستمرار، مركّزة انتباهها فيه، في حياته وإنجيله، في صليبه وقيامته، وفي سرّه بكامله. فكلّ ما يكوّن "رؤيا" المسيح في إيمان الكنيسة الحيّ وتعليمها، يقرّبنا من "رؤيا الآب" في قداسة رحمته. يبدو أنّ الكنيسة تجاهر وتجلّ رحمة الله بطريقة خاصّة عندما تتوجّه الى قلب المسيح. وبالفعل، إنّ اقترابنا من المسيح في سرّ قلبه، يسمح لنا بالتوقّف عند هذه النقطة -نقطة مركزية بمعتى ما، وفي الوقت عينه، الأكثر سهولة للمنال على الصعيد البشرّي- نتوقف عند نقطة كشف حبّ الآب الرحيم الذي شكّل المضمون المركزي لرسالة ابن الانسان المسيحانيّة.
تعيش الكنيسةالحياة الحقيقيّة عندما تجاهر بالرحمة وتعلنها -الصفة الأروع للخالق المخلّص- وعندما تقود الناس الى ينابيع رحمة المخلّص، التي هي مؤتمنة عليها وموزّعة لها. في هذا الاطار، إنّ التأمّل المستمرّ بكلمة الله، وبخاصة المشاركة الواعية والرزينة في سرّ الافخارستيا وسرّ التوبة أو المصالحة، يحملان معنًى بليغًا. فالافخارستيا تقرّبنا دائمًا من ذاك الحبّ الأقوى من الموت: "بالفعل، كلّ مرّة نأكل هذا الخبز ونشرّب هذه الكـأس"، لا نعلن موت الفادي وحسب، بل نعلن قيامته أيضًا، "بانتظار مجيئه"[114] في المجد. الاحتفال بالافخارستيا، تذكيرًا بالذي، برسالته المسيحانيّة، كشف لنا الآب بكلامه وصليبه، يشهد على الحبّ الذي لا ينضب، الذي بواسطته، يرغب ان يتّحد بنا ويصبح واحدًا منّا، ذاهبًا لملاقاة كلّ القلوب البشرّية. إنّ سرّ التوبة أو المصالحة هما اللذان يفتحان الطريق لكلّ إنسان، حتى حين يكون رازحًا تحت عبء خطأ جسيم. في هذا السرّ، يستطيع كلّ انسان اختبار الرحمة بطريقة فريدة، أي ذاك الحبّ الأقوى من الخطيئة. والرسالة البابوية "مخلص البشرّية" تطرّقت الى هذه النقطة، إلاّ أنّه من المستحسن العودة،مرّة أخرى، الى هذا الموضوع الأساسي.
لأنّ الخطيئة موجودة في هذا العالم، الذي "أحبّه الله كثيرًا، حتى أنه ضحّى بابنه الوحيد"[115]، إن لله، الذي "هو محبّة"[116]، لا يقدر أن يكشف عن ذاته إلّا بالرحمة. وهذا ينطبق، ليس فقط مع أعمق حقيقة لهذا الحبّ، الذي هو الله، بل مع حقيقة الانسان الداخليّة والعالم، الذي هو وطنه المؤقت.
الرحمة، كونها كمال الله اللامتناهي، هي أيضًا لامتناهية. لامتناهية هي إذًا، ولا تنضب سرعةُ الآب في استقبال الأبناء الضالّين العائدين الى بيته. لامتناهيتان هما أيضًا سرعةُ الغفرانِ وحرارتُه اللتان تفيضان باستمرار، من قيمة تضحية الابن الرائعة. ما من خطيئة، يقترفها الانسان، يمكنها أن تفوق هذه القوّة أو حتّى أن تحدّ منها. أما من جهة الانسان، فوحده فقدان النيّة الحسنة يمكن أن يحدّ منها، وعدم الاستعداد للارتداد والتوبة، أي التشبّث المستمرّ الذي يقاوم الرحمة والحقيقة، خصوصًا حيال شهادة صليب المسيح وقيامته.
لهذا السبب، تبشرّ الكنيسة بالارتداد وتدعو إليه، إذ إنّ الإرتداد إلى الله يكمن دومًا في اكتشاف رحمته، أي هذا الحبّ الصبور والعذب[117]، على قدر قامة الله الخالق والآب: الحبّ الذي يبقى "اللهُ وأبو سيدنا يسوع المسيح"[118] وفيًّا له، حتى أقصى عواقبه في تاريخ العهد مع الانسان، حتى الصليب، حتى موت ابنه وقيامته. الرجوع إلى الله يبقى دومًا، ثمرة العودة الى الآب الغنيّ بالرحمة.
إنّ المعرفة الحقيقيّة لإله الرحمة، إله الحبّ المتسامح، هي مصدر توبة ثابتة لا ينضب، ليس فقط كفعل داخلي مؤقّت، بل أيضًا كاستعداد دائم، كحالة نفسية. والذين يتوصّلون الى معرفة الربّ بهذه الطريقة، والذين "يرونه" هكذا، لا يمكنهم أن يعيشوا إلّا في الرجوع اليه باستمرار. أي انّهم يعيشون حالة الارتداد، وهذه الحالة هي التي تشكّل العنصر الأساسيّ لحجّ كلّ إنسان على هذه الارض في حالة مسيرة. من الواضح أن الكنيسة تجاهر برحمة الله التي أظهرها المسيح المصلوب والقائم من الموت، ليس فقط بتعليمها، إنما قبل كلّ شيء، بأعمق نبض حياة كلّ شعب الله. بفضل شهادة الحياة هذه، تؤدّي الكنسيةُ الرسالة الخاصة بشعب الله، رسالة تشارك في رسالة المسيح ذاته المسيحانيّة، والتي، إلى حدّ ما، تواصلها.
إن الكنيسة المعاصرة تدرك جيّدًا أنها، استنادًا على الرحمة الإلهيّة فقط، يمكنها أن تحقّق المهام التي تنجم عن تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وأوّلاً المهمة المسكونية التي تقضي بتوحيد جميع الذين يؤمنون بالمسيح. فيما تبذل الكنيسة جهودًا متعدّدة في هذا الاتجاه، تعترف، بتواضع، أن هذا الحبّ وحده، الذي هو أقوى من الضعف والانقسامات البشرّية، يمكنه أن يحقّق، نهائيًّا، هذه الوحدة التي كان يلتمسها المسيح من أبيه، والتي ما زال الروح يلتمسها لنا "بأنّات لا توصف"[119].
14. الكنيسة تجهد لتفعيل الرحمة
لقد علّمنا المسيح أنّ الانسان لا يقتبل رحمة الله ويختبرها فقط، ولكنه أيضًا مدعوّ، بدوره، الى أن يرحم الآخرين: "طوبى للرحماء فانهم يرحمون"[120]. ترى الكنيسة في هذه الكلمات نداءً إلى العمل، وتجدّ في ممارسة الرحمة. إن كانت كلّ التطويبات، في عظة الجبل، تدلّ على طريق التوبة وتبديل نهج الحياة، فإن تلك التي تخصّ الرحماء، هي في هذا الصدد، بليغة بشكل خاصّ. يبلغ الانسان الى حبّ الله الرحيم، والى رحمته، بقدر ما يبدّل ذاته داخليًا، بروح حبّ كهذا تجاه القريب.
هذا المسار الإنجيلي الحقّ ليس تحوّلًا روحانيًا نحقّقه بشكل نهائيّ وحسب، بل هو نمط حياة متكامل، وسمة جوهرّية ومستمرّة للدعوة المسيحية. إنه يكمن في الاكتشاف المستمرّ للحبّ ولتفعيله، بصفته قوّة موحّدة ومرقّية، بالرغم من كلّ الصعوبات النفسيّة والاجتماعيّة؛ فالأمر يتعلّق بالفعل، بالحبّ الرحيم، الذي هو في جوهره حبّ مبدع. الحبّ الرحيم في العلاقات البشرّية، ليس البتّة عملاً أو مساراً من طرف واحد، حتّى في الحالات التي يبدو فيها أنّ طرفًا واحدًا يعطي ويقدّم، بينما الطرف الآخر يأخذ وينال (مثل الطبيب الذي يعالج، والمعلّم الذي يعلّم، والأهل الذين يربّون ويعلّمون أبناءهم، والمحسن الذي يساعد الذين هم في حاجة)، بيد أنه في الحقيقة، حتّى الذي يعطي، ينال بالمقابل. في جميع الأحوال، يمكن بسهولة للّذي يعطي أن يكون هو نفسه في موقع الذي يتلقّى، والذي ينال الخير، والذي يلتقي الحبّ الرحيم، والذي يجد نفسه هو موضوع الرحمة.
وبهذا المنحى، إنّ المسيح المصلوب هو، بالنسبة الينا، القدوة والإرشاد والحافز الأعلى. على غرار هذا المثال المؤثّر، يمكننا، بكلّ تواضع، إظهار الرحمة تجاه الآخرين، واثقين أن المسيح يتلقّاها كما لو كانت موجّهة إليه بالذات[121]. ووفق هذا المثال، علينا أيضًا باستمرار تنقية كلّ أعمالنا ونوايانا التي فيها يتمّ استيعاب الرحمة وممارستها من جانب واحد، كخير نصنعه للآخرين. إذ انّها في الواقع، تكون عمل حبّ رحيم، فقط عندما نقتنع عميقًا ونحن نمارسها، أننا نتلقاها في الوقت ذاته من الذين يقبلونها منا. إن انعدمت هذه الثنائية، وهذا التبادل، فإنّ أعمالَنا ليست بعدُ أعمال رحمةٍ صادقة، وطريقَ الارتداد إلى الله التي رسمها لنا المسيح بكلامه ومثله حتى الصليب لم يتحقّق بعد بالكامل، ولسنا نشارك بعد كليًّا في ينبوع الحبّ الرحيم العظيم الذي أظهره لنا.
هكذا إذاً، إنّ الطريق الذي دلّنا عليه المسيح في عظة الجبل، مطوِّبًا الرحماء، هو أكثر غنىً مما يمكن أن نكتشف أحيانًا في الأفكار البشرية المعتادة حول الرحمة. هذه الأفكار تعتبر الرحمة كعمل أو مسار آحاديّ، يستلزم ويحفظ المسافات بين الذي يفعل الرحمة والذي يتلقاها، بين الذي يفعل الخير والذي يُنعَم عليه بالخير. من هنا، نشأ ادّعاء تحرير العلاقات البشرّية والاجتماعية من الرحمة وتأسيسها فقط على العدالة. إنّما هذه الآراء حول الرحمة، لا تأخذ بعين الاعتبار الرابط الأساسيّ بين الرحمة والعدالة، الذي يتحدّث عنه التقليد البيبلي بأسره، وبخاصّة رسالة يسوع المسيح المسيحانيّة. فالرحمة الحقيقيّة، إذا جاز التعبير، هي الينبوع الأعمق للعدالة. فإن كانت هذه الأخيرة جديرة بذاتها "لتحكم" بين الناس، كي توزّع الخيرات الأرضية بينهم بطريقة عادلة، فالحبّ بعكس ذلك، ووحده فقط (هذا الحبّ العطوف الذي نسميه "رحمة") كفيل بأن يعيد الإنسان إلى ذاته.
إن الرحمة المسيحية الحقيقية هي أيضًا، بشكل ما، التجسيد الأكمل ﻟﻟ"مساواة" بين الناس، وبالتالي، فهي إذاً التجسيد الأكمل للعدالة، بما أن هذه الأخيرة، في نطاقها، تهدف الى النتيجة عينها. إنّ المساواة التي تدخلها العدالة تقتصر على قطاع الخيرات الموضوعيّة الخارجية، في حين أنّ الحبّ والرحمة يتيحان للبشرّ أن يتلاقوا في ما بينهم حول هذه القيمة التي هي الإنسان بالذات، مع الكرامة الخاصة به. وفي الوقت ذاته، إن "المساواة" التي هي وليدة الحبّ "الصبور والعطوف"[122]، لا تُزيل الفوارق: فالذي يعطي يصبح أكثر سخاءً إذ يشعر بامتنان الذي قبل عطاءه. والعكس صحيح، فإنّ الذي يعرف أن يتلقّى العطاء، مدركًا أنه يحسن صنيعًا بقبوله، يخدم بذلك قضية كرامة الإنسان الكبرى، ويسهم، بالتالي، في توحيد البشر، بطريقة أكثر عمقاً.
وهكذا إذاً، تصبح الرحمة عنصرًا لاغنى عنه، لإقامة العلاقات المتبادلة بين الناس، بروح احترام عميق، نحو ما هو إنسانيّ ونحو الأخوّة المتبادلة. ليس من الممكن إنشاء هذه العلاقة بين البشر إذا أردنا معالجة علاقاتهم المتبادلة فقط بواسطة العدالة. وهذه العدالة، في كافّة أطر العلاقات بين البشرّ يجب أن تخضع، إذا صحّ القول، إلى "إعادة ترميم" هامّة من قبل الحبّ الذي هو، كما أعلنه القدّيس بولس، "صبور" و"عطوف" أو بتعبير آخر، يحمل في ذاته ميّزات الحبّ الرحوم التي هي جِدّ أساسية، بالنسبة إلى الإنجيل والمسيحيّة. وعلاوة على ذلك، نذكّر بأن الحبّ الرحيم يتضمّن حنان القلب وحساسيّته اللذين يحدّثنا عنهما، ببلاغة كبيرة، مثل الإبن الضالّ[123]، أو مثل النعجة والدرهم الضالّين[124]. لذا فلا غنى عن الحبّ الرحيم، خاصة بين الأقارب: بين الأزواج، بين الأهل والأبناء، بين الأصدقاء. ولا غنىً عنه أيضًا في التربية والرعويات.
لكنّحقل عمله لا يقتصر على هذا. فإن كان بولس السادس قد أعلن مرارًا، أن "حضارة الحبّ"[125] كانت الهدف الذي يجب أن ترمي إليه كلّ الجهود، في الحقلين الاجتماعي والثقافي، كما في الحقلين الاقتصادي والسياسي، فمن المستحسن أن نضيف، أن هذا الهدف لا يمكن بلوغه أبداً، طالما اننا، في مفاهيمنا وإنجازاتنا المتعلقة بحقل الحياة المشتركة الواسع والمعقد، نتمسّك بمبدأ "العين بالعين والسن بالسن"[126]، ولا نسعى إلى تبديله من جوهره، عاملين بذهنيّة أخرى.
من المؤكدأن المجمع الفاتيكاني الثاني يقودنا في هذا الاتجاه، عندما يتحدّث تكرارًا، عن ضرورة جعل العالم أكثر انسانية[127]، فهو يقدّم رسالة الكنيسة في العالم المعاصر كإنجاز لهذه المهمة. ولا يمكن للعالم البشريّ أن يصبح أكثر إنسانيّة إن لم نُدخِل على نطاق العلاقات المتبادلة بين الناس والعلاقات الاجتماعية، بالاضافة الى العدالة، هذا "الحبّ الرحيم" الذي يشكّل رسالة الإنجيل المسيحانيّة.
يمكن للعالم البشريّ أن يصبح "إنسانيّا أكثر فأكثر"، فقط عندما نُدخِل إلى كافّة العلاقات المتبادلة التي تشكّل جانبه المعنوي، لحظة التسامح، الأساسيّة للغاية بالنسبة للإنجيل. التسامح يشهد أن الحبّ الذي هو أقوى من الخطيئة موجود في العالم. وعلاوة على ذلك، إنّ التسامح هو الشرط الأوّل للمصالحة، ليس فقط في علاقة الله مع الانسان بل في علاقات البشر مع بعضهم البعض. إن عالما قد يغيب عنه التسامح، يصبح مجرّد عالم عدالةٍ باردة وغير محترمة، باسمها يطالبُ الكلّ بحقوقه الخاصة إزاء الغير؛ فهكذا، الأنانيّات الهاجعة في الإنسان، على جميع أنواعها، يمكنها أن تحّول الحياة والمجتمع البشرّي الى نظام اضطهاد للأكثر ضعفًا من قبل الأكثر قوّة، أو إلى حلبة صراع دائم، الواحد ضدّ الآخر.
لذا، على الكنيسة اعتبار كإحدى واجباتها الأساسيّة، في كلّ حقبة من التاريخ، وبخاصة الحقبة المعاصرة، أن تعلن وتُدخِل إلى الحياة سرّ الرحمة، المعلن بأعلى مستوياته في يسوع المسيح. إنّ هذا السرّ ليس فقط لأجل الكنيسة كجماعة مؤمنين، ولكنه أيضًا، بنوع ما، لكلّ الناس، هو مصدر لحياة مختلفة عن تلك التي يمكن أن يبنيها الإنسان المعرّض لقوى الشهوة الثلاثية القمعيّة التي تعمل في داخله[128]. وباسم هذا السرّ يعلّمنا المسيح أن نغفر دومًا. كم مرّة نردّد كلمات الصلاة التي علّمنا إياها، طالبين، "اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر لمن خطئ الينا"[129] أي للمخطئين تجاهنا! من الصعب حقًّا أن نعبّر عن القيمة العميقة للموقف الذي تحدّده وترسّخه كلمات كهذه. كم من الأمور تكشفها هذه الكلمات لكل إنسان عن شبيهه وعن ذاته! إن إدراك مديونيّتنا الواحد إزاء الآخر، يتساوى مع الدعوة الى التضامن الأخوي، الذي عبّر عنه القديس بولس باختصار، داعيًا إيّانا لتحمّل "بعضنا بعضًا بمحبّة"[130] يا لها من أمثولة تواضع تجاه الإنسان، وفي الوقت عينه تجاه القريب وتجاه أنفسنا! يا لها من مدرسة للإرادة الصالحة، من أجل العيش المشترك اليوميّ، في مختلف ظروف وجودنا! إن لم نكترث بأمثولة كهذه فماذا يبقى من أيّ برنامج "إنسانيّ" للحياة والتربية.
يشدّد المسيح بإلحاح على ضرورة مسامحة الآخرين: عندما سأله بطرس عن عدد المرّات التي يجب أن يسامح فيها قريبه، ذكر له المسيح العدد الرمزي "سبعين مرّة سبع مرّات"[131]، كي يبيّن بذلك أنه عليه أن يعرف كيف يسامح الجميع، ودائمًا. من البديهي أنّ إلزامًا بالتسامح بهكذا سخاء لا يلغي إلزامات العدالة الموضوعيّة. والعدالة، إذ تُفهم بشكل صحيح، تشكّل هدف الغفران إذا جاز التعبير. لا يوجد في أيّ فقرة من رسالة الإنجيل، أنّ الغفران ولا حتّى الرحمة التي هي ينبوعه، يعني التساهل مع الشرّ، أو الفضيحة، أو مع الإساءة للغير أو الأذى. في أيّ حال، إن إصلاح الشرّ أو الفضيحة، والتعويض عن الضرر وإرضاء المتضرّر، كلّ هذه هي شروط للغفران.
هكذا اذاً، إن بنية العدالة الأساسية تدخل دائمًا في نطاق الرحمة. لكنّ هذه الرحمة، تملك القوّة لإعطاء العدالة مضمونا جديداً، يعرب عنه بأبسط وأكمل طريقة في الغفران. ويظهر الغفران، في الواقع، علاوة على مسار "التعويض" و"الهدنة" الذي هو السمة الخاصة للعدالة، أنّ الحبّ ضروريّ كي يثبت الإنسان ذاته كإنسان. وتتميم شروط العدالة لا بدّ منه، خاصّة من أجل أن يتمكّن الحبّ من الكشف عن ذاته. في تحليلنا لمثل الإبن الضالّ، قد لفتنا النظر الى أن المسامح والمسامَح يلتقيان على نقطة جوهرية، ألا وهي كرامة الإنسان وقيمته الجوهرية، التي لا يمكن أن تضيع، والتي يشكّل تأكيدها، وإعادة اكتشافها مصدر أكبر فرح[132].
تعتبر الكنيسة، بحق، أن واجبها وهدف رسالتها يقومان على تأمين حقيقة المسامحة، في الحياة والتصرف، كما في التربية والرعويات. والكنيسة لا تحافظ على هذه الرسالة إلا بمحفاظتها على مصدرها، أي سرّ رحمة الله بالذات، الذي كشفه يسوع المسيح.
في أساس رسالة الكنسية، وفي جميع الحقول التي يتكلّم عنها العديد من نصوص المجمع الذي عُقد مؤخّرًا، وخبرة الرسالة الدهريّة، ليس هناك إلّا "الاستقاء من ينابيع المخلّص"[133]: فإن هذا ما يخطّ توجّهات متعدّدة لرسالة الكنيسة في حياة المسيحيّين الأفراد، والجماعات وكلّ شعب الله. "الاستقاء من ينابيع المخلص" هذا لا يمكن أن يتحقّق إلّا بروح الفقر الذي دعانا إليه الله بكلامه ومثاله: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا"[134]. هكذا، في كلّ دروب الحياة وخدمة الكنيسة، عبر الفقر الإنجيلي لخدّامها وموزعيّ أسرّارها، كما وللشعب بأكمله، الذي يشهد "لكلّ عجائب" سيّده هذه، يتجلّى، الله " الغنيّ الرحمة" بطريقة أفضل.
VIII. صلاة كنيسة زمننا المعاصر
15. الكنيسة تناشد الرحمة الالهية
إن الكنيسة تعلن حقيقة رحمة الله التي كشفت لنا في المسيح المصلوب والقائم من بين الاموات، وتجاهر بها، بطرق مختلفة. وتسعى، من ناحية أخرى، إلى تطبيق الرحمة مع الناس، بواسطة الناس، معتبرةً أن ذلك شرطاً لا بدّ منه في عملها على عالم أفضل "وأكثر إنسانية" اليوم وغدًا. إلاّ أنّ الكنيسة لا تستطيع أن تنسى، في أيّة لحظة ولا في أيّة حقبة من التاريخ، وبخاصة، في حقبة حرجة كالتي يعيشها عصرنا، الصلاة التي هي صرخة لرحمة الله، إزاء أشكال الشرّ المتعدّدة التي تُثقل كاهل البشرّية وتهددّها. هذا هو حقّ الكنيسة وواجبها الأساسيّ في المسيح يسوع: هذا هو حقّ الكنيسة وواجبها تجاه الله والبشرّ. فبقدر ما يرزح الضمير البشرّي تحت نير العلمانية، فينسى معنى كلمة "رحمة"، بقدر ما يبتعد عن الله، فيبتعد عن سرّ الرحمة، بقدر ذلك وأكثر، للكنيسة الحقّ والواجب أن تدعو إله الرحمة "بصراخ كبير"[135]. هذا "الصراخ الكبير" يجب أن يميّز كنيسة زمننا، ويجب أن يُوَجَّه الى الله من أجل التماس رحمته التي تجاهر بها الكنيسة وتعلنها، تجاهر بأن ظهورها الأكيد قد تمّ بيسوع المصلوب والقائم من الموت، أي في السرّ الفصحيّ. هذا هو السرّ الذي يحمل في ذاته الكشف الأكمل للرحمة، أي ذاك الحبّ الأقوى من الموت، وأقوى من الخطيئة ومن أيّ شرّ؛ الحبّ الذي يرفع الإنسان من سقطاته السحيقة ويحررّه من التهديدات الكبيرة.
يشعر الإنسان المعاصر بهذه التهديدات. وما قيل أعلاه، عن هذه النقطة ليس سوى مجرّد رسم أوّلي. غالبًا ما يتساءل الإنسان المعاصر، بكثير من القلق، عن حلّ للتوترات الرهيبة التي تكاثرت في العالم وتداخلت بين الناس. وإن لم تكن له الجرأة، أحياناً، على أن يتلفّظ بكلمة "رحمة"، أو إن لم يجد في ضميره المجرّد من أيّ حسّ دينيّ مرادفًا لها، فهذا يزيد من الضرورة أن تتلفّظ الكنيسةُ بهذه الكلمة، ليس فقط باسمها الخاص بل بإسم كلّ أبناء العصر أيضًا.
يجب بالتالي أن يتحوّل كلّ ما قلته في هذه الوثيقة حول الرحمة، الى صلاة حارّة: يتحوّل باستمرار الى هتاف يلتمس الرحمة، وفقًا لحاجات الانسان في العالم المعاصر. ليكن هذا الهتاف مفعمًا بكلّ هذه الحقيقة عن الرحمة التي عُبِّر عنها ببلاغة في الكتاب المقدّس وفي التقليد، كما في حياة الإيمان الحقيقية، لأجيال عديدة من شعب الله. بصرخة كهذه، كالمؤلفين القديسين، نناشد الله الذي لا يمكن أن يحتقر شيئًا مما خلقه[136]، الإله الوفيّ لذاته وأبوتَه وحبّه! وكالأنبياء، لندعو ذاك الحب ذات الميزات الأمومية، كالأم التي تتبع كلّ واحد من أبنائها، كلّ نعجة من نعاجها الضالّة، حتى ولو كان هناك الملايين من الضالّين، وحتى لو سيطر الظلم على الشهامة في العالم، وحتى لو أن البشرّية المعاصرة استحقّت، بسبب خطاياها، "طوفانًا" جديدًا، كما استحقّه، قديمًا، جيل نوح! لنلجأ الى الحبّ الأبويّ الذي كشفه لنا المسيح في رسالته المسيحانيّة، والذي بلغ ذروته في صلبه وموته وقيامته! لنلجأ الى الله بواسطة المسيح، متذكّرين كلمات نشيد مريم، الكلمات التي تبشّر بالرحمة "من جيل الى جيل"! لنتوسّل الى الرحمة الإلهية من أجل جيلنا المعاصر! لتعبّر الكنيسة، التي تسعى على غرار مريم، أن تكون أمّ البشر في الله، بهذه الصلاة عن تضامنها الأموميّ، وفي الوقت عينه عن حبّها الواثق الذي تنبع منه الحاجة الحارة للصلاة.
لنرفع توسّلاتنا، يقودنا الإيمان والرجاء والمحبّة التي غرسها المسيح في قلوبنا! فهذا الموقف هو أيضًا حبّ لهذا الإله الذي أبعده عنه للغاية الإنسانُ المعاصر أحيانًا، معتبرًا إيّاه غريبًا عنه، معلنًا بشتّى الطرق أنّه "غير ضروريّ". هذا الموقف يجسّد اذاً حبّ الله الذي نشعر كم أن الإنسان المعاصر يهينه ويرفضه، ونحن مستعدّون أن نصرخ مع المسيح على الصليب: "اغفر لهم يا أبت لأنهم لا يدرون ما يفعلون"[137]. إنه في الوقت نفسه، حبّ البشرّ، كلّ البشرّ، بدون استثناء أو تمييز: بدون اختلاف في العرق أو الثقافة أو اللغة أو فهم العالم، بدون تفريق بين أصدقاء وأعداء. هذا هو حبّ البشرّ، الذي يريد الخير الحقيقي لكلّ منهم، ولكلّ جماعة بشرّية، ولكلّ عائلة، ولكلّ أمّة، ولكلّ فئة اجتماعيّة، وللشبّان، والراشدين، والأهل، والمسنّين والمرضى؛ إنّه حبّ للكلّ بلا استثناء. هذا هو الحبّ، هذه العناية المحبة لتأمين كلّ خير أصيل لكلّ إنسان، واستبعاد كل نوع من الخطر وتفاديه.
وإن كان أحد معاصرينا أو غيره، لا يشارك في الإيمان والرجاء اللذين يقودانني، كخادم المسيح وموزَع أسرّار الله[138]، لالتماس رحمة الله للإنسانيّة، في هذه الحقبة من التاريخ، فليسعَ أقلّه لفهم سبب هذا الحرص. لقد أملاه حبُّ الإنسان، وكلّ ما هو بشرّي، والذي، بحسب حدس قسم كبير من الناس في هذا الزمن، هو مُهَدَّد بخطر جسيم. إنّ سرّ المسيح الذي، إذ كشف لنا عن دعوة الانسان السامية، دفعني للتذكير في الرسالة العامّة "مخلص البشرّية" بكرامته التي لا مثيل لها، يجبرني في الوقت عينه أن أعلن الرحمة كمحبّة الله الرحيمة، التي كُشِفَت لنا في سرّ المسيح ذاته. وهذا يقودني أيضاً الى التماس هذه الرحمة والتوسل إليها، في هذه المرحلة الصعبة والحرجة من تاريخ الكنسية والعالم، فيما نبلغ نهاية الألفية الثانية.
باسم يسوع المسيح المصلوب والقائم من الموت، وبروح رسالته المسيحانيّة الحاضرة دومًا في تاريخ البشرّية، نرفع صوتنا وابتهالاتنا كي يظهر مجدّدًا، وفي هذه المرحلة من التاريخ، الحبّ الذي هو في الآب؛ كيما، بعمل الابن والروح القدس، يكشف عن حضوره في عالمنا المعاصر، أقوى من الشرّ وأقوى من الخطيئة ومن الموت. نتوسَل بشفاعة تلك التي لا تنفك تعلن "الرحمة من جيل الى جيل"، وبشفاعة الذين قد تمّت فيهم كلمات خطبة الجبل بالكامل: "طوبى للرحماء فانهم يُرحمون"[139].
فيما تتابع الكنيسة مهمّتها الكبرى في تفعيل عمل المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي، من خلاله، يمكننا أن نرى، بحقّ، مرحلة جديدة من تحقيق الكنيسة لذاتها، على قدر العصر الذي أُعطينا أن نعيشه، فإن عليها أن تدرك تمام الإدراك أنّه لا يجوز لها، تحت أيّ ظرف، في عملها هذا، أن تنغلق على ذاتها. إن سبب وجودها، بالفعل، هو الكشف عن الله، أي الآب الذي يسمح لنا "برؤيته" في المسيح[140]. مهما كانت قويّة مقاومة التاريخ البشرّي، ومهما كانت بالغة الطبيعة غير المتجانسة للحضارة المعاصرة، ومهما كان قويًا إنكار الله في العالم البشريّ، فأعظم منها يجب أن يكون القرب من هذا السرّ، الذي كان خفيًّا في الله منذ أجيال، ومن ثم أشرك فيه الإنسان بواسطة يسوع المسيح.
مع بركتي الرسولية.
صدر في روما، قرب القديس بطرس، 30 نوفمبر – تشرين الثاني 1980
الأحد الأوّل من زمن "التحضير لعيد الميلاد"، في السنة الثالثة لحبّريتنا
حقوق الطبع 1995
مكتبة دار النشر الفاتيكان
[1]أف 2، 4.
[2] را. يو 1، 18 أو عب 1، 1.
[3] يو 14، 8.
[4]أف 2، 4- 5.
[5] 2 قور 1، 3.
[6]الدستور الرعوي حول الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، عدد 22؛ أعمال الكرسي الرسولي 58 [1966]، ص.1042.
[7] را. نفس المرجع.
[8] 1 طيم 6، 16.
[9]روم 1، 20.
[10]يو 1، 18.
[11] 1 طيم 6، 16.
[12]طي 3، 4.
[13]أف 2، 4.
[14]را. تك 1، 28.
[15]الدستور الرعائي حول الكنيسة في عالم اليوم فرح ورجاء، عدد 9؛ أعمال الكرسي الرسولي 58 [1966]، ص. 1032.
[16]2 قور 1، 3.
[17]متى 6، 4. 6. 18.
[18]را. أف 3، 18؛ لو 11، 5- 13.
[19]لو 4، 18.
[20]لو 7، 19.
[21]لو 7، 22.
[22] 1 يو 4، 8. 16.
[23]أف 2، 4.
[24]لو 15، 11- 32.
[25]لو 10، 30- 37.
[26]متى 18، 23- 35.
[27]متى 18، 12- 14؛ لو 15، 3- 7.
[28]لو 15، 8- 10.
[29]متى 22، 38.
[30]متى 5، 7.
[31]را. قض 3، 7- 9.
[32]را. 1 مل 8، 22- 53.
[33]را. مي 7، 18- 20.
[34]را. أش 1، 18؛ 51، 4- 16.
[35]را. با 2، 11- 3، 8.
[36]را. نح 9.
[37]را. مثلا هو 2، 21- 25 و 15؛ أش 54، 6- 8.
[38]را. إر 31، 20؛ حز 39، 25- 29.
[39]را. 2 صم 11؛ 12؛ 24، 10.
[40] أيوب بشكل عام
[41]أس 4، 17.
[42]را. مثلا نح 9، 30- 32؛ طو 3، 2- 3. 11- 12؛ 8، 16- 17؛ 1 مك 4، 24.
[43]را. خر 3، 7.
[44]را. أش 63، 9.
[45]را. خر 34، 6.
[46]را. عد 14، 18؛ 2 أخ 30، 9؛ نح 9، 17؛ مز 86 (85)، 15؛ حك 15، 1؛ سي 2، 11؛ يوء 2، 13.
[47]را. أش 63، 16.
[48]را. خر 4، 22.
[49]هو 2، 3.
[50]را. هو 11، 7- 9؛ إر 31، 20؛ أش 54، 7.
[51]را. مز 103 (102) و مز 145 (144).
[52] تستخدم كتب العهد القديم، في تحديدها للرحمة، عبارتين أساسيّتين، لكلّ منها فارق دلاليّ بسيط. هناك أوّلًا عبارة "חסד" (hesed)التي تشير إلى "صلاح" عميق. وحين يقوم هذا الصلاح بين شخصين، لا يصبح هذان الشخصان خيّران أحدهما تجاه الآخر وحسب، إنما في الوقت عينه، أمينان فيما بينهما بفعل قوّة الالتزام الداخليّ، وبالتالي بفعل قوّة الأمانة لذاتهما أيضًا. وإن حملت كلمة "חסד" معنى "نعمة" أو "محبّة"، فهذا يقوم تحديدًا على هذه الأمانة. وأن كان لهذا الالتزام، ليس فقط طابعٌ أخلاقيّ إنما يكاد أن يكون قانوني، فهذا لا يغيّر شيئا. عندما يُنسب الـ "חסד" إلى الله في العهد القديم، إنما يحدث دومًا نسبة للعهد الذي قطعه الله مع إسرائيل. فقد كان هذا العهد هبة ونعمة لإسرائيل من قِبَلِ الله. لكن "חסד"، بما أنها متّسقة مع العهد الذي قطعه الله والتزم باحترامه، فقد نالت، بمعنى ما، مضمونًا قانونيًّا. الالتزام القانوني من قِبَلِ الله توقّف، عندما خان اسرائيل العهد ولم يحترم شروطه. وهنا بالتحديد، إذ لم يعد الـ "חסד" واجبًا قانونيّا، كشف عن جانبه الأعمق: فظهر على ما كان عليه في البدء، أي كمحبة تعطي، محبة أقوى من الخيانة، ونعمة أقوى من الخطيئة.
هذه الأمانة إزاء "ابنة شعبي" غير الأمينة (را. مرا 4، 3. 6) هي، في النهاية، أمانة من قبل الله لنفسه. ويبدو هذا واضحا لاسيما في التكرار المتعدّد للثنائي "חסדואמת" (صلاح وحقيقة) الذي يمكن اعتباره نوعًا من الـ Hendiadys- بلاغة تجعل من كلمتين تعبيرا واحدا - (را. مثلا خر 34، 6؛ 2 صم 2، 6؛ 15، 20؛ مز 25 [24]، 10؛ 40 [39]، 11؛ 85 [84]، 11؛ 168 [137]، 2؛ مي 7، 20). "لَيسَ لأَجلِكم أَنا فاعِلٌ، يا بَيتَ إِسْرائيل، بل لأَجِل، اسمِيَ القُدُّوسِ" (حز 36، 22). إسرائيل بالتالي، وعلى الرغم من أنه مثقل بالذنوب لأنه لم يكن أمينا للعهد، لا يمكنه أن يطالب بـ "חסד" الله على أساس العدالة (القانونية)؛ ولكن يمكنه، بل يجب، أن يستمرّ برجائه وأن يثق بأنه سوف ينالها، كون إله العهد حقًّا "مسؤولا عن محبته". وثمار محبة كهذه هي المغفرة، والتجدد بالنعمة، وإعادة إقامة العهد الداخلي.
العبارة الثانية التي تستخدم في العهد القديم لتحديد الرحمة هي "רחמים". ولهذه العبارة فرق بسيط عن "חסד". فيما أن "חסד" يسلّط الضوء على طابعين خاصّين: الأمانة لنفسه و "المسؤولية عن محبته" (وهما طابعين ذكوريين)، تحدّد عبارة "רחמים" (rahamim)، بدأ من جذورها، حب الأم (رحم). فمن الرابط الأعمق والأكثر أصالة، لا بل من الوحدة التي تربط الأم بطفلها، تنبع علاقة خاصة به، حبًّا خاصًّا. ويمكن القول عن هذا الحب أنه مجّاني، وليس نتيجة استحقاق ما، ويكوّن بهذا الشكل ضرورة داخلية: إنه من متطلّبات القلب. يكاد إن يكون البديل "الأنثوي" للأمانة للذات الذكورية التي تعبّر عنها الـ "חסד". وعلى هذه الخلفيّة النفسيّة، تولّد "רחמים" مجموعة من المشاعر، ومن بينها الصلاح والحنان والصبر والتفهم، أي الاستعداد للغفران.
ينسب العهد القديم هذه السمات للربّ حين يتحدّث عنه مستخدمًا عبارة "רחמים". نقرأ في أشعيا: "أَتَنْسى المَرأَةُ رَضيعَها فلا تَرحَمُ آبنَ بَطنِها؟ حتَّى ولَو نَسيَتِ النِّساءُ فأَنا لا أَنْساكِ" (49، 15). ويتمّ التعبير عن هذا الحب، الأمين والذي لا يقهر بفضل القوّة العجيبة الخاصة بالأمومة، في كتب العهد القديم بأشكال مختلفة: كالنجاة من الأخطار، ولاسيما من الأعداء، أو كمغفرة للذنوب - ذنوب الأفراد أم ذنوب كل إسرائيل - أو في الاستعداد لتتميم الوعد والرجاء (الأخروي)، بالرغم من عدم أمانة البشر، كما نقرأ في هوشع: "أَشفيهم مِنِ ارتدادِهم وأُحِبُّهم بِسَخاء" (هو 14، 5).
ضمن مصطلحات العهد القديم نجد بعض العبارات الأخرى، تشير بشكل مختلف إلى المضمون الأساسي ذاته. ولكن هاتان العبارتان تستحقّان انتباها خاصا. ففيهما يظهر بشكل واضح طابعهما البشري الأصلي: يستخدم واضعو الكتاب المقدّس إذ يصوّرون الرحمة الإلهية عبارات تتوافق مع وعي وخبرة الرجل المعاصر آنذاك. العبارات اليونانية للنسخة السبعينية تبيّن عن غنى أصغر من غنى النسخة العبرية: ولا تقدّم بالتالي كلّ الفوارق الدلالية الخاصة بالنص الأصلي. بأيّة حال، فالعهد الجديد يبني على الغنى والعمق اللذان تميّز بهما العهد القديم.
ونرث بهذا الشكل من العهد القديم -وكأنه ملخّص خاص- ليس فقط غنى العبارات المستخدمة في هذه الكتب لتحديد الرحمة الإلهية، إنما "سيكولوجية" معمّقة لله، ذات الملامح البشرية الواضحة: صورة محبته المرعشة، التي تظهر، إذ تتّصل بالشرّ ولاسيما بخطيئة الإنسان والشعب، تظهر على أنها رحمة. إن صورة كهذه تتكوّن أيضًا، فضلا عن مضمون العام لكلمة "حنان"، من مضمون "חסד" و"רחמים". فكلمة "حنان" تعبّر عن مفهوم أوسع؛ مفهوم يعني، في الواقع، ظهور النعمة، التي تتضمّن، إذا صحّ القول، استعدادًا سَمِحًا وخيّرًا ومتسامحًا دائم. إلى جانب هذه العناصر الدلالية الأساسية، يتكون مفهوم الرحمة في العهد القديم أيضًا من الفعل "חומל" (hāmal)، الذي يعني حرفيا "ينقذ (هزم العدو)"، إنما أيضًا "يظهر شفقة وتضامنا" وبالتالي، صفح ومغفرة ذنوب. وتعبّر أيضًا كلمة "חוס" (hῡs) عن الشفقة والتضامن لكن بالأكثر في معناه العاطفي. نادرا ما تظهر هذه العبارات في الكتب المقدّسة لتشير إلى الرحمة. تجدر الإشارة أيضًا إلى العبارة " אמת" (‘emet) التي تعني أوّلا "متانة، سلامة" (في اليونانية "حقيقة" بحسب النسخة السبعينية) وتعني من ثم "أمانة"، وتبدو في هذه الحالة أنها تتوافق مع المضمون الدلالي الخاص بعبارة "חסד".
[53]مز 40 (39)، 11؛ 98 (97)، 2؛ أش 45، 21؛ 51، 5. 8; 56، 1.
[54]حك 11، 24.
[55]1 يو 4، 8. 16.
[56]إر 31، 3.
[57]أش 54، 10.
[58]يو 4، 2. 11؛ مز 145 (144)، 9؛ سي 18، 8– 14؛ حك 11، 23 – 12، 1.
[59]يو 14، 9.
[60] الأمر يتعلّق بعبارة "חסד" في كلتا الحالتين، أي بالأمانة التي يظهرها الله لمحبته لشعبه، أمانة للوعود، التي تجد، في أمومة والدة الله بالتحديد، ملأها النهائي (لو 1، 49 - 54).
[61] هي الرحمة في هذه الحالة أيضًا، بمعنى الـ "חסד"، بما أنه يتمّ التعبير بشكل واضح، في الجمل اللاحقة التي يتكلّم فيها زكريا عن "رحمة" الله، عن المعنى الثاني، معنى "רחמים" الذي يُشبّه الرحمة الإلهية بالحبّ الوالدي (لو 1، 72).
[62] را. لو 15، 11- 32.
[63]لو 15، 18.
[64] لو 15، 20.
[65] لو 15، 32.
[66] را. لو 15، 3- 6.
[67] را. لو 15، 8.
[68] 1 قور 13، 4- 8.
[69] را. روم 12، 21.
[70] را. ليتورجيا ليلة عيد الفصح (لتتهلل Exultet).
[71] رسل 10، 38.
[72] متى 9، 35.
[73]را. مر 15، 37؛ يو 19، 30.
[74]اش 53، 5.
[75]2 قور 5، 21.
[76]نفس المرجع.
[77] قانون إيمان نيقية - القسطنطنية.
[78]يو 3، 16.
[79]را. يو 14، 9.
[80]متى 10، 28.
[81]فل 2، 8.
[82] 2 قور 5، 21.
[83]را. 1 قور 15، 54.
[84]را. لو 4، 18- 21.
[85]را. لو 7، 20- 23.
[86]را. اش 35، 5؛ 61، 1- 3.
[87] 1 قور 15، 4.
[88]رؤ 21، 1.
[89]رؤ 21، 4.
[90]را. نفس المرجع.
[91]رؤ 3، 20.
[92]را. متى 24، 35.
[93]را. رؤ 3، 20.
[94]متى 25، 40.
[95]متى 5، 7.
[96]يو 14، 9.
[97]روم 8، 32.
[98]مر 12، 27.
[99]يو 20، 19- 23.
[100]مز 89 (88)، 2.
[101]لو 1، 50.
[102]را. 2 قور 1، 21.
[103]لو 1، 50.
[104]را. مز 85 (84)، 11.
[105]لو 1، 50.
[106]را. لو 4، 18.
[107]را. لو 7، 22.
[108]الدستور العقائدي نور الأمم، 62؛ أعمال الكرسي الرسولي 57 (1965)، ص. 63.
[109]الدستور الرعوي حول الكنيسة في العالم المعاصر فرح ورجاء، عدد 10؛ أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. 1032.
[110]نفس المرجع.
[111]متى 5، 38.
[112]را. يو 14، 9.
[113]يو 14، 9.
[114]را. 1 قور 11، 26.
[115]يو 3، 16.
[116] 1 يو 4، 8.
[117]را. 1 قور 13، 4.
[118]را. 2 قور 1، 3.
[119]روم 8، 26.
[120]متى 5، 7.
[121]را. متى 25، 34- 40.
[122]را. 1 قور 13، 4.
[123]را. لو 15، 11- 32.
[124]را. لو 15، 1- 10.
[125]را. تعاليم بولس السادس، XIII(1975) ص. 1568 (اختتام السنة المقدّسة 25 ديسمبر/كانون الأول 1975).
[126]متى 5، 38.
[127]را. الدستور الرعوي حول الكنيسة في العالم المعاصر، فرح ورجاء، 40؛ أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) ص. 1057-1059؛ البابا بولس السادس، الإرشاد الرسولي، بمحبة والدية (Paterna cum benevolentia) عدد 1 و 6: أعمال الكرسي الرسولي 67 (1975) ص. 17- 23.
[128]را. 1 يو 2، 16.
[129]متى 6، 12.
[130]افس 4، 2؛ را. غل 6، 2.
[131]متى 18، 22.
[132]را. لو 15، 32.
[133]را. اش 12، 3.
[134]متى 10، 8.
[135]را. عب 5، 7.
[136]را. حك 11، 24؛ مز 145 (144)، 9؛ تك 1، 31.
[137]لو 23، 34.
[138]را. 1 قور 4، 1.
[139]متى 5، 7.
[140]را. يو 14، 9.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana