رسالة البابا فرنسيس
في مناسبة اليوم العالمي الثامن والخمسين
للصلاة من أجل الدعوات 2021
القديس يوسف: حلم الدعوة
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، في مناسبة الذكرى المائة والخمسين لإعلان القديس يوسف شفيعًا للكنيسة الجامعة، بدأنا السنة الخاصّة المكرّسة له (را. مرسوم هيئة التوبة الرسوليّة، 8 كانون الأول/ديسمبر 2020). من جهتي، وجَّهت رسالة بابويّة بعنوان "بقلب أبوي"، بهدف "تنمية المحبّة لهذا القدّيس العظيم". إنّه في الواقع شخصيّة غير عاديّة، وفي الوقت نفسه إنّه "قريب جدًّا من كلّ واحدٍ منّا في حالتنا البشرية". لم يكن في القدّيس يوسف شيء يدهش، ولا كان موهوبًا بمواهب خاصّة، ولم يَرَ فيه كلُّ من التقاه شيئًا يميِّزُه. لم يكن مشهوراً ولم يكن فيه شيءٌ يلفت الانتباه. والأناجيل لا تورد حتى ولا كلمة واحدة له. ومع ذلك، في حياته العاديّة، حقّق شيئًا غير عادي في عينَيْ الله.
يرى الله القلب (را. 1 صم 16، 7)، وفي القدّيس يوسف رأى الله قلب الأب، الذي يقدر أن يعطي ويُوَلِّد الحياة في الظروف اليوميّة العاديّة. هذا هو هدف الدعوات: أن نلد الحياة ونجدّدها كلّ يوم. يريد الله أن يكوّن قلوبَ آباء وقلوبَ أمَّهات: قلوبًا منفتحة، وقادرةً على الانطلاقات الكبيرة، سخيّةً في العطاء، رحيمةً في التعزية في الشدائد، ومتينةً ثابتة لتقوية الرجاء. إلى هذا يحتاج الكهنوت والحياة المكرّسة، خصوصًا اليوم، في الأوقات التي اتسمت بالهشاشة والمعاناة أيضًا بسبب الجائحة، ممّا أدّى إلى إثارة الشكوك والمخاوف بشأن المستقبل ومعنى الحياة نفسها. يأتي القدّيس يوسف للقائنا بوداعته، هو القدّيس الواقف إلى جانبنا. في الوقت نفسه، يمكن لشهادته القويّة أن ترشدنا في طريقنا.
يقترح القدّيس يوسف علينا ثلاث كلمات رئيسيّة، لدعوة كلّ واحد منا. الكلمة الأولى هي الحُلم. كلّ واحدٍ في هذه الحياة يحلَم أن يحقِّق ذاتَه. ومن الصّواب أن نغذّي توقعاتٍ كبيرة وتطلُّعاتٍ عَالِية، بدلَ أمورٍ عابرة لا تكفي لإشباعنا، مثل النجاح والمال والمتعة. في الواقع، لو طلبنا من الناس أن يقولوا بكلمة واحدة ما هو حُلم حياتهم، لن يكون من الصّعب تخيل الجواب، سيقولون: "الحبّ". الحبّ هو الذي يعطي الحياة معناها، لأنّه يكشف سرها. في الواقع، يملك الإنسان الحياة بقدر ما يعطيها، لا يمكن امتلاكها حقًا إلا إذا تم إعطاؤها عطاءً كاملًا. لدى القديس يوسف الكثير ليقوله لنا في هذا الموضوع، لأنّه من خلال الأحلام التي ألهمه الله إياها، جعل من حياته عطاء.
تروي الأناجيل أربعة أحلام (را. متى 1، 20؛ 2، 13. 19. 22). كانت كلُّها من الله، لكن لم يكن من السهل قبولُها. بعد كلّ حُلم، كان على يوسف أن يغيّر خططه وأن ينفِّذَ، وأن يضّحي بخططه الخاصّة ليسير بحسب أسرار الله. فقد وضع ثقته الكاملة في الله. ومع ذلك، يمكننا أن نتساءل: "ماذا كان هذا الحُلم في الليل حتى يضع فيه كلّ هذه الثقة؟" في القديم، على قَدْرِ ما كان للأحلام أهميّة كبيرة، إلّا أنَّها في الحقيقة شيء قليل أمام الواقع الملموس للحياة. ومع ذلك، فقد ترك القديس يوسف نفسه تُقاد بأحلامه دون تردّد. لماذا؟ لأنّ قلبه كان موجَّهًا نحو الله، كان قلبه مستعدًّا لقبول كلّ شيء من الله. إشارة صغيرة إلى "سماعه الداخلي" المتنبِّه كانت كافية للتعرُّف على صوت الله. ينطبق هذا أيضًا على دعوتنا: لا يحبّ الله أن يكشف عن نفسه لنا بطريقة فائقة العادة، تفرض نفسها على حريتنا. فهو ينقل خططه إلينا بوداعة. إنّه لا يرهبنا برؤى صاعقة، بل يتوجّه بنعومة إلى حياتنا الداخلية، ويجعل نفسه قريبًا منا ويكلّمنا من خلال أفكارنا ومشاعرنا. وهكذا، كما فعل مع القديس يوسف، يُقَدِّمُ لنا أهدافًا عالية ومدهشة.
دفعت الأحلام يوسف إلى مغامرات لم يكن قطُّ ليتخيلها. زعزع الحلم الأوّل استقرار خطوبته، لكنّه جعله أباً للمسيح، وجعله الحلم الثاني يهرب إلى مصر، وبذلك أنقذ حياة عائلته. بعد الحلم الثالث، الذي بشّره بعودته إلى وطنه، جعله الحلم الرابع يغيّر خططه مرة أخرى، وأعاده إلى الناصرة، حيث سيبدأ يسوع إعلان ملكوت الله. في كلّ هذه الأحداث، ثبت أنّ الشجاعة في اتباع مشيئة الله هي المنتصرة. هذا ما يحدث في الدعوة: فالدعوة الإلهيّة تدفعنا دائمًا إلى أن نخرج، وأن نعطي ذاتنا، وأن نذهب دائمًا إلى ما هو أبعد. لا يوجد إيمان بدون مجازفة. فقط إذا استسلمنا بثقة للنعمة، ووضعنا جانبًا برامجنا الخاصّة ووسائل راحتنا، يمكن أن نقول بالفعل "نَعَمْ" لله. وكلّ " نَعَمْ" تُؤْتِي ثمارًا، لأنّها تلتزم بخطة أسمى، نرى بعض تفاصيلها فقط، ولكن الفنان الإلهي يعرفها ويمضي بها قُدُماً، ليصنع من كلّ حياة تحفة فنيّة. بهذا المعنى، يُمَثِّلُ القديس يوسف أيقونة نموذجية لاستقبال خطط الله. واستقبالُه استقبالٌ فاعل، فهو لا يتنازل أو يستسلم فقط، "وليس شخصًا مذعنًا سلبيًّا. بل له شخصيّةٌ شجاعة وقويّة" (رسالة رسولية، بقلب أبوي، 4). نسأله أن يساعد الجميع، ولا سيما الشباب ليعرفوا كيف يميزون، ليحققوا أحلام الله عليهم، ويلهمهم أن يبادروا بشجاعة ليقولوا " نَعَمْ" لله الذي يفاجئ دائمًا ولا يخيب الأمل أبدًا!
الكلمة الثانية التي تحدد مسيرة القديس يوسف ودعوته هي: الخدمة. يتضح من الأناجيل كيف عاش في كلّ شيء من أجل الآخرين وليس لنفسه. دعاه شعب الله القدوس "الخطيب العفيف"، وبذلك كشف عن قدرته على المحبة دون الاحتفاظ بأي شيء لنفسه. حرّر الحبَّ من كلّ تملّك، فأصبح قادرًا على أداء خدمة أكثر خصوبة: رعايته المُحِبَّة عبرت الأجيال، وجعلته رعايته اليقظة شفيع الكنيسة. وهو أيضًا شفيع الميتة الصالحة، وقد جسَّد هو في نفسه معنى التضحية بالحياة. لكن خدمته وتضحياته كانت ممكنة، فقط لأنّ حبًّا أكبر كان يدعمهما: "كلّ دعوة حقيقية تولد من التضحية بالذات، وهي تنضيج لمفهوم الذبيحة. ويُطلَب هذا النوع من النضج أيضًا في الكهنوت والحياة المكرّسة. عندما لا تبلغ الدعوةُ، سواء كانت إلى الزواج أو العزوبيّة أو البتوليّة، هذا النضجَ في هبة الذات، وإن لم تثبت في منطق التضحية، إذّاك، بدلًا من أن تكون الدعوةُ علامة على جمال الحبّ وفرحه، توشك أن تكون تعبيرًا عن التعاسة والحزن والإحباط" (را. المرجع نفسه، 7).
الخدمة هي التعبير العملي عن التضحية بالذات. ولم تكن للقديس يوسف مجرد مِثَال أعلى، بل أصبحت قاعدة للحياة اليوميّة. فقد عمل بجد لإيجاد وتهيئة مكان يولد فيه يسوع، وبذل قصارى جهده للدفاع عنه من غضب هيرودس، فقام بسرعة بالرحيل إلى مصر. ولما فقدوا يسوع في الهيكل، سارع بالعودة إلى أورشليم بحثًا عنه، وقام بإعالة عائلته بالعمل، حتى في أرض غريبة. باختصار، تكيّف مع الظروف المختلفة، وسلك سلوك من لا ييأس إذا تعسرت معه أمور الحياة: كان دائما مستعدًّا، كمن يعيش ليخدم. بهذه الرّوح تقبَّل يوسف الرحلات العديدة، والمفاجئة غالبًا، في حياته: من الناصرة إلى بيت لحم لإجراء الإحصاء، ومن ثّم إلى مصر ومرَّة أخرى إلى الناصرة، ومرَّة في كلّ سنة إلى القدس. كان دائمًا مستعدًّا لمواجهة الظروف الجديدة، دون أن يتشكّى ممّا يحدث. كان دائمًا مستعدًا أن يمدّ يد العون لإصلاح المواقف. يمكن القول إنّه كان بمثابة يد الآب السماوي الممدودة إلى ابنه على الأرض. لذلك، لا يمكنه إلّا أن يكون المثال لكلّ الدعوات التي يُطلَبُ منها ذلك، أي أن تكون يد الأب المهتمة بأبنائه وبناته.
يروق لي أن أفكر إذن في القديس يوسف، حارسِ يسوع والكنيسة، حارسًا للدعوات. في الواقع، من استعداده للخدمة يأتي اهتمامه في الحراسة. "فقامَ فأَخَذَ الطِّفْلَ وأُمَّه" (متى 2، 14)، كما يقول الإنجيل، مشيرًا إلى استعداده وتفانيه من أجل العائلة. لم يضيّع وقتاً في الغضب على الأمور التي كانت تتعسّر أمامه، حتى لا يتهرب من مسؤوليته تجاه من اؤتمن عليه. هذا الاهتمام الدقيق والمتنبه هو علامة على دعوة ناجحة. إنّها شهادة لحياة أثرت فيها محبة الله. يا له من مثال جميل للحياة المسيحيّة نقدمه عندما لا نكابر فنتبع أطماعنا، وعندما لا نسمح لأنفسنا أن تصاب بالشلل بسبب أشواقنا ورغباتنا، بل نهتم لما يأتمننا الله عليه بواسطة الكنيسة! حينئذ يُفِيض الله روحه فينا وقوةَ إبداعِه، ويصنعُ فينا العجائب، كما صنع في يوسف.
بالإضافة إلى دعوة الله - التي تحقِّقُ أكبر أحلامنا – وبالإضافة إلى جوابنا الذي يظهر في الخدمة المستعدة لكلّ شيء، وفي العناية الساهرة - هناك جانب ثالث يملأ حياة القديس يوسف، والدعوةَ المسيحيّة، وينعش رَتابَةَ حياتنا اليومية وهو: الأمانة. كان يوسف رجلًا "بارًّا" (متى 1، 19). وفي الصمت والعمل في كلّ يوم، ثابر على التمسك بالله والطاعة لخططه. وفي اللحظة الصّعبة بشكل خاص كان يأخذ "بالتفكير في كلّ الأشياء" (را. الآية 20). يتأمل ويتروّى، ولا يسمح لنفسه أن يهيمن عليه التسرع، ولا يستسلم لتجربة اتخاذ قرارات متهورة، ولا ينقاد للغريزة، ولا يعيش تلك اللحظة فقط. بل يصنع كلّ شيء بصبر. إنّه يعلم أنّ الحياة تُبنَى بالتمسك الدائم بالخيارات الكبرى. وهذا يتَّفق مع الاجتهاد الوديع والمستمر الذي مارس به مهنة النجارة المتواضعة (را. متى 13، 55). ذلك لم يلهم مصادر الأخبار في زمنه، لكنّه يلهم الحياة اليومية لكلّ أب وكلّ عامل، وكلّ مسيحي على مر القرون. لأنّ الدعوة، مثل الحياة، تنضج بالأمانة اليومية فقط.
كيف نغذي هذه الأمانة؟ نغذيها في ضوء أمانة الله. كانت أولى الكلمات التي سمعها القديس يوسف في الحلم هي الدعوة إلى عدم الخوف، لأن الله أمين لوعوده: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ" (متى 1، 20). لا تَخَفْ: هذه هي الكلمات التي يوجهها الرّبّ إليكِ أيضًا، أختي العزيزة، وإليكَ، أخي العزيز، عندما تتنبه، في وسط الشكوك والتردد، أنّه لم يعد ممكنًا أن تؤجل التضحية بحياتك من أجل الله. هذه هي الكلمات التي يكررها لك عندما تجد نفسك، أينما كنت، تصارع كلّ يوم، في وسط المحن وسوء الفهم، من أجل اتباع مشيئة الله. وهذه هي الكلمات التي تعيد اكتشافها عندما تعود، على طول مسيرة دعوتك، إلى حبك الأوّل. إنّها الكلمات، التي ترافق مثل اللازمة، من يقول نعم لله في حياته، مثل القديس يوسف: من خلال الأمانة في كلّ يوم.
هذه الأمانة هي سرّ الفرح. تقول ترنيمة ليتورجية: في بيت الناصرة كان "فرح صافٍ". ذلك فرحُ كلِّ يوم، شفافٌ ببساطته، الفرحُ الذي يختبره من يحرس ما هو جدير بالاهتمام أي: القرب الأمين من الله والقريب. كم يكون جميلًا لو كان هذا الجوُّ نفسُه، البسيطُ والمُشِعُّ، القانِعُ والمليءُ بالرجاء، يملأ معاهدَنا الإكليريكية، ومؤسساتِنا الرهبانية، وبيوتَ رعايانا! إنّه الفرح الذي أتمناه لكم، أيّها الإخوة والأخوات الذين أَعطَيْتُم بسخاء وجَعَلْتم الله حُلْمَ حياتكم، لخدمته في الإخوة والأخوات الموكلين إليكم، بأمانتكم التي هي في حدِّ ذاتها شهادة، في زمن مليء بخيارات عابرة ومشاعرَ تزول دون أن تمنحَكم الفرح. ليرافقكم القديس يوسف، حارسُ الدعوات، بقلبه الأبوي!
أُعطيَت في روما، قرب القديس يوحنا في اللاتران، يوم 19 مارس/آذار 2021، في عيد القدّيس يوسف.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana