كلمة قداسة البابا فرنسيس
إلى الدبلوماسيّين المُعتَمدين لدى الكرسي الرسولي
في مناسبة اللقاء السّنوي لتبادل التّهاني بالعام الجديد
9 كانون الثّاني/يناير 2023
في قاعة البركات
_________________________________
نيافة الكاردينال، أصحاب السّعادة، سيداتي، سادتي،
أشكركم لحضوركم في موعدنا المعتاد، والذي أوَدُّ أن يكون هذا العام أمنية سلام في عالم تزداد فيه الانقسامات والحروب.
أشكر بصورة خاصّة عميد السّلك الدبلوماسي، سعادة السّيّد جورج بوليديس، على تمنياته القلبيّة التي وجهها إليّ بالنيابة عنكم جميعًا. وأتوجّه بتحياتي إلى كلّ واحد منكم، وإلى عائلاتكم، وإلى معاونيكم، وإلى شعوب وحكومات البلدان التي تمثلونها. كما أودّ أن أعرب لكم جميعًا ولسلطاتكم عن شكري على رسائل التّعزية التي أُرسلت في وفاة البابا السّابق بنديكتس السّادس عشر، وعلى قربكم الذي ظهر خلال الجنازة.
اختتمنا قبل أيام زمن الميلاد، الذي يحيِي المسيحيّون فيه ذكرى سرّ ولادة ابن الله. وقد تنبأ النّبيّ أشعيا بذلك بهذه الكلمات: "قد وُلِدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا ٱبنٌ، فصارَتِ الرِّئاسَةُ على كَتِفِه، ودُعِيَ ٱسمُه عَجيبًا مُشيرًا، إِلٰهًا جَبَّارًا، أَبا الأَبَدِ، رَئيسَ السَّلام"(أشعيا 9، 5).
حضوركم يؤكّد قيمة السّلام والأخُوّة الإنسانيّة التي يُسهِم الحوار في بنائها. من جهة أخرى، فإنّ مهمّة العمل الدبلوماسيّهو التّخفيف من حدة النزاعات لتعزيز مناخ من التعاون والثّقة المتبادلَين لتلبية الاحتياجات المشتركة. يمكن القول إنّه تدريب في التّواضع لأنّه يتطلب التّضحية بشيء من حبّ الذات للدخول في علاقة مع الآخرين، لفهم أسبابهم ووجهات نظرهم. وهذا يتناقض مع كبرياء الإنسان وغطرسته،التي هي سبب إرادة الحروب.
وأعرب أيضًا عن امتناني للاهتمام الذي توليه بلدانكم للكرسي الرسولي. وقد أقدَمت،في العام الماضي، سويسرا وجمهوريّة الكونغو وموزامبيق وأذربيجان على تعيين سفراء لها مقيمين في روما، كما تمّ التّوقيع على اتفاقيات ثنائية جديدة مع جمهوريّة ساو تومي وبرينسيبي الديمقراطيّة ومع جمهوريّة كازاخستان.
وبهذا الخصوص، يهمني أن أقول إنّه كان حوار بنَّاء، في إطار من الاحترام، بين الكرسي الرسولي وجمهورية الصّين الشّعبيّة، نتج عنه تمديد الاتفاق الموقت لتعيين الأساقفة لمدة سنتين جديدتين، الموقع في بكين سنة 2018. آمل أن تتطوّر هذه العلاقة وهذا التّعاون من أجل حياة الكنيسة الكاثوليكيّة وخير الشّعب الصّيني.
وفي الوقت نفسه، أجدّد التأكيد على التعاون الكامل من قبل أمانة سرّ الدولة، وسائر دوائر الكوريا الرّومانيّة، التي تمّ إصلاحها في بعض هيكلياتها، بالدستور الرّسوليّ ”أعلنوا البشارة“، لتقدّم خدمتها بصورة أفضل، "بروحٍ إنجيليّة، وتعمل لخير ولخدمة الشّركة والوَحدة وبناء الكنيسة الجامعة، متنبّهة لمتطلّبات العالم الذي فيه تُدعى الكنيسة إلى القيام برسالتها" [1].
السّفراء الأعزاء
يصادف هذا العام الذكرى السّنويّة السّتين للرسالة العامة ”سلام على الأرض“ للقدّيس يوحنا الثّالث والعشرين، التي نشرها أقل من شهرين قبل وفاته [2].
في نظر ”البابا الطيّب“، كان خطر الحرب النوويّة على الأبواب، بسبب ما سمي بأزمة الصّواريخ في كوبا في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 1962. كانت الإنسانيّة على بعد خطوة من القضاء على نفسها بنفسها، لو لم ينجحوا في تغليب الحوار، لعلمهم بالنتائج المدمّرة للأسلحة النوويّة.
ومع ذلك، ما زال التّهديد النووي قائمًا حتى يومنا هذا، مغرقًا العالم في الخوف والقلق. لا يسعني إلّا أن أكرّر هنا أنّ امتلاك الأسلحة الذريّة أمر غير أخلاقيّ لأنّه - كما لاحظ يوحنا الثّالث والعشرون - "إذا كان من الصّعب إقناع الناس بأنّ هناك أشخاصًا قادرين على تحمّل المسؤوليّة في مجال الدمار والألم الذي قد تسبّبه الحرب، فمن غير المستبعد أن يحدث حادث، لا يمكن التّنبؤ به ولا يمكن السّيطرة عليه، يشعل الشّرارة التي تحرّك جهاز الحرب" [3]. مع تهديد الأسلحة النووية، نحن جميعًا خاسرون دائمًا، جميعًا!
وفي هذا الموضوع نفسه، ما زال مصدر قلق خاصّ توقف المفاوضات في خطة العمل العالميّة المشتركة، والمعروفة باسم اتفاقيّة إيران النووية. آمل أن يتمّ التّوصل إلى حلّعمليّ في أقرب وقت ممكن لضمان مستقبل فيه مزيد من الأمان.
اليوم، نحن أمام حرب عالميّة ثالثة في عالم معولم، حيث تؤثّر الصّراعات بشكل مباشر،ليس فقط على بعض مناطق الكوكب، بل تشمل الجميع بشكل أساسي. أقرب الأمثلة وأحدثها هو بالتّحديد الحرب في أوكرانيا، وما تلاها من موت ودمار، مع الهجمات على البنيّة التّحتية المدنية التي أدت إلى فقدان الناس حياتهم ليس فقط من القنابل والعنف، ولكن أيضًا من الجوع والبرد. وفي هذا الصدد، يؤكّد الدستور المجمعي”فرح ورجاء“ أنّ "كلّ عمل حربي يهدف دون تمييز إلى تدمير مدن بأكملها أو مناطق شاسعة وسكانها، هو جريمة ضد الله وضد الإنسانيّة نفسها ويجب إدانتها بحزم وبدون تردد" (رقم 80). يجب ألّا ننس أيضًا أنّ الحرب تؤثّر بشكل خاص على أكثر الناس هشاشة - الأطفال وكبار السّن والمعاقين - وتمزّق العائلات وتترك فيها أثرًالا يمحى. اليوم، لا يسعني إلّا أن أجدّد ندائي من أجل إنهاء فوري لهذا الصّراع الذي لا معنى له، والذي تطال آثاره مناطق بأكملها، حتى خارج أوروبا بسبب تداعياته في مجال الطّاقة وفي مجال إنتاج الغذاء، وخاصّة في إفريقيا والشّرق الأوسط.
تقودنا الحرب العالميّة الثالثة المجزأة التي نمرّ بها إلى النظر إلى أماكن التّوتر والصّراعات الأخرى. وفي هذا العام، ومع الكثير من الألم، يجب أن ننظر إلى سوريا على أنّها أرض معذبة. تقتضينهضة هذا البلد الإصلاحات اللازمة، بما في ذلك الإصلاحات الدستوريّة، في محاولة لإعطاء الأمل للشعب السّوري المنكوب بالفقر المتزايد باستمرار. ويجب ألّا يكون للعقوبات الدوليّة المفروضة تداعيات على الحياة اليوميّة لسكان كثرت آلامهم.
ويتابع الكرسي الرسولي بقلق تصاعد العنف بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، وما يترتب على ذلك من نتائج مأساوية للعديد من الضّحايا وانعدام الثّقة المتبادلة. وتتأثّر القدس بصورة خاصة بهذا الوضع. إنّها مدينة مقدّسة لليهود والمسيحيّين والمسلمين. دعوتها المنقوشة في اسمها هي أن تكون مدينة سلام، لكنّها للأسف مسرح صراعات. أنا على ثقة أنّه يمكن اكتشاف هذه الدعوة من جديد، لتكون مكانًا ورمزًا للقاء والعيش السّلمي معًا. وآمل أن يبقى الوصول إلى الأماكن المقدّسة وحرية العبادة فيها مضمونين ومحافظًا عليهما وفقًا للوضع القائم (status quo). وفي الوقت نفسه، آمل أن تتمكن سلطات دولة إسرائيل وسلطات دولة فلسطين من استعادة الشّجاعة والعزم على الدخول في حوار مباشر من أجل تنفيذ حلّ الدولتين بجميع أوجهه، وفقًا لـلقانون الدولي وجميع قرارات الأمّم المتّحدة ذات الصّلة.
كما تعلمون، في نهاية هذا الشّهر، سأتمكّن أخيرًا من الذهاب،في حِجَّة سلام، إلى جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة، على أمل أن يتوقّف العنف في شرق البلاد وأن يُغَلَّب طريق الحوار والإرادة في العمل من أجل الأمن والخير العام. سأتابع رحلة الحجّإلى جنوب السّودان، حيث يرافقني رئيس أساقفة كانتربري والمدير العام للكنيسة المشيخيّة في اسكتلندا. معًا نرجو أن ننضم إلى صرخة الشّعب من أجل السّلام والمساهمة في عمليّة المصالحة الوطنيّة.
ويجب ألّا ننسى المواقف الأخرى التي تستمر فيها عواقب النزاعات التي لم تُحل بعد. أفكّر بشكل خاص في الوضع في جنوب القفقاز الجنوبي. أوجّه كلمتي إلى الطّرفين وأحثهما على احترام وقف إطلاق النار، وأعيد التّأكيد على أنّ إطلاق سراح السّجناء العسكريّين والمدنيّين سيكون خطوة مهمّة نحو اتفاق السّلام المنشود.
وأفكّر أيضًا في اليمن، حيث الهدنة التي تمّ التّوصل إليها في تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي ما زالت سارية المفعول، ولكن العديد من المدنيّين لا يزالون يموتون بسبب الألغام الأرضيّة. وفي إثيوبيا، حيث آمل أن تستمّر عمليّة السّلام والتزام المجتمع الدولي بمعالجة الأزمة الإنسانيّة التي تؤثّر في البلاد.
وأتابع بقلق الوضع في غرب إفريقيا، التي تعاني بصورة متزايدة من عنف الإرهاب. أفكّر بصورة خاصّة في المآسي التي عانى منها سكان بوركينا فاسو ومالي ونيجيريا، وآمل أن تتمّ العمليات الانتقاليّة الجاريّة في السّودان ومالي وتشاد وغينيا وبوركينا فاسو، وفقالتّطلعات المشروعة للسكان المعنيّين.
كما أنّني أتابع باهتمام خاصّ الوضع في ميانمار، التي تعاني من العنف والألم والموت منذ عامين،وحتى الآن. وأدعو المجتمع الدولي إلى إتمام عمليات المصالحة الجارية، وأحثّ جميع الأطراف المعنية على استئناف مسار الحوار لإعادة الأمّل إلى سكان تلك الأرض الحبيبة.
أخيرًا، أفكّر في شبه الجزيرة الكورية، التي آمل ألّا تفشل فيها النوايا الحسنة والالتزام بالوئام، من أجل بناء السّلام والازدهار المنشود للشّعب الكوري بأسره.
وبعد ذلك، فإنّ جميع النزاعات تسلّط الضّوء على العواقب المميتة بسبب اللجوء المستمّر إلى إنتاج أسلحة جديدة ومتطوّرة، يتمّ تبريرها أحيانًا "على أساس أنّه إذا كان السّلام ممكنًا اليوم، فلا يمكن أن يكون إلّا سلامًا قائمًا على توازن القوى" [4]. من الضّروريّ تقويض هذا المنطق والمضي قدمًا على طريق نزع السّلاح الكامل، إذ لا يمكن أن يوجد سلام حيث تنتشر أدوات الموت.
السّفراء الأعزاء،
في مثل زمن الصّراعات هذا، لا يمكنّنا تجنّب السّؤال عن كيفية إعادة ربط خيوط السّلام. من أين تبدأ؟
أحاول أن أبدأ بالجواب، لذلك أودّ أن أتناول معكم بعض عناصر الرّسالة العامة ”سلام على الأرض“. إنّهاتبقى رسالة مناسبة لزمننا، على الرّغم من أنّ السّياق الدولي تغيّر كثيرًا. بالنسبة للقدّيس يوحنا الثالث والعشرين، السّلام ممكن في ضوء أربعة خيارات أساسيّة: الحقيقة والعدل والتّضامن والحرّيّة. هذه هي أحجار الزاوية التي تنظّم العلاقات بين الأفراد وبين الجماعات السّياسيّة [5].
هذه الأبعاد ترتبط مع الفرضيّة الأساسيّة القائلة إنّ "كلّكائن بشريّ هو شخص، أي له طبيعة تتمتع بالعقل والإرادة الحرّة. وبالتالي فهو موضوع الحقوق والواجبات التي تنشأ بشكل فوري ومتزامن من طبيعته نفسها: هذه الحقوق والواجبات هي بالتالي عامّة، وعالميّة ولا يجوز المساس بها، وهي غير قابلة للتصرّف" [6].
سلام في الحقيقة
إنّ بناء السّلام في الحقيقة يعني قبل كلّ شيء احترام الإنسان، احترام "حقه في الوجود والسّلامة الجسديّة" [7]، ويجب ضمان "الحرّيّة له في البحث عن الحقيقة والتّعبير عن فكره ونشره" [8]. وهذا يتطلّب أن "تساهم السّلطات العامّة بشكل إيجابي في خلق بيئة بشريّة يمكن فيها لجميع أعضاء الجسم الاجتماعيّأن يمارسوا ممارسة فعّالة حقوقهم المذكورة أعلاه، فضلًا عن أداء واجباتهم" [9].
على الرّغم من الالتزامات التي تعهدت بها جميع الدول باحترام حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة لكلّ شخص، لا تزال النساء اليوم، في العديد من البلدان، مواطنات من الدرجة الثانيّة. يتعرَّضْنَ للعنف والإساءة، ويُحرَمْنَ فرصة الدراسة والعمل والتّعبير عن مواهبهنَّ، والحصول على الرّعاية الصّحيّة وحتى الطّعام. بينما حيث يتمّ الاعتراف بحقوق الإنسان للجميع، يمكن للمرأة أن تقدّم مساهمتها التي لا يمكن تعويضها في الحياة الاجتماعيّة وأن تكون الحليف الأوّل من أجل السّلام.
يتطلّب السّلام قبل كلّ شيء أن ندافع عن الحياة، وهو خير يتعرّض للخطر اليوم ليس فقط بسبب النزاعات والجوع والمرض، لكن في كثير من الأحيان حتى وهو في رحم أمِّه، بادعاء ”الحق في الإجهاض“. لا يمكن لأحد الادعاء بأنّ له حقًّا على حياة إنسان آخر، خاصّةً إذا كان أعزل،ومحرومًا من أي إمكانية للدفاع عن نفسه. لذلك أناشد ضمائر الرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة، ولا سيّما أصحاب المسؤوليّات السياسيّة، للعمل على حماية حقوق الأضعفين، والقضاء على ثقافة الإقصاء، التي تصيب، للأسف، المرضى والمعاقين وكبار السن. تقع على عاتق الدول مسؤوليّة أساسيّة في ضمان مساعدة المواطنين في كلّ مرحلة من مراحل الحياة البشريّة، حتى الموت الطبيعي، والعمل على أن يشعر كلّ واحد بأنّه يجد المرافقة والعناية اللازمة في أشد الأوقات في حياتهم.
يتعرّض الحق على الحياة للخطر أيضًا حيث يستمّر تطبيق عقوبة الإعدام، كما يحدث هذه الأيام في إيران، في أعقاب المظاهرات الأخيرة التي دعت إلى قدر أكبر من الاحترام لكرامة المرأة. لا يمكن استخدام عقوبة الإعدام من أجل عدالة تصنعها الدولة، لأنّها ليست رادعًا، ولا توفّر العدالة للضحايا، لكنّها تغذي فقط عطش الانتقام. لذلك، إنّي أناشد جميع الدوللإلغاء عقوبة الإعدام في تشريعاتها، فهي غير مقبولة في كلّ الأحوال، لأنّها اعتداء على حرمة وكرامة الإنسان. ولا يمكننا أن ننسى أنّ الشّخص يمكنه، حتى اللحظة الأخيرة، أن يتوب وأن يتغيَّر.
يبدو، مع الأسف،انتشار متزايد لظاهرة جديدة هي ”الخوف" من الحياة“. يظهر ذلك في أماكن كثيرة، في الخوف من المستقبل وفي صعوبة تكوين عائلة وإنجاب الأولاد. في بعض الأماكن، أفكّر في إيطاليا على سبيل المثال، هناك انخفاض خطير في معدل المواليد، إنّه شتاء ديموغرافي حقيقي، يعرِّض مستقبل المجتمع للخطر. إلى الشّعب الإيطالي العزيز، أودّ أن أجدّد تشجيعي على مواجهة تحديّات الوقت الحاضر بإصرار وأمل، أقوياءبجذورهم الدينيّة والثّقافيّة.
تجد المخاوف غذاءها في الجهل والأحكام المسبقة، وتتحوّل بسهولة إلى صراعات. التّعليم هوالمضاد الحيوي لذلك. يقدّم الكرسي الرسولي ويشجع رؤية متكاملة للتّعليم، حيث "تسير معًا القيَم الدينيّة وصقل الضّمير الأخلاقي، مع مزيد من استيعاب ثراء العناصر العلميّة والتقنيّة" [10]. يتطلّب التّعليم دائمًا الاحترام الكامل للفرد وخصائصه الطّبيعيّة، وتجنب فرض رؤية جديدة ومشوشة للإنسان. وهذا يعني دمج مسارات النمو البشريّ والرّوحيّ والفكريّ والمهنيّ، والسّماح للفرد بتحرير نفسه من أشكال العبوديّة المتعددة وتثبيت نفسه في المجتمع بطريقة حرّة ومسؤولة. بهذا المعنى، من غير المقبول استبعاد جزء من السّكان من التّعليم، كما يحدث الآن للنساء الأفغانيّات.
أصبح التّعليم تحت رحمة أزمة تفاقمت بسبب العواقب المدمرة للجائحة والسّيناريو الجيوسياسيّ المقلق. ومن هذا المنطلق، مثلت ”القمة لتحويل التّعليم“، التي دعا إليها الأمين العام للأمّم المتّحدة، وعقدت في أيلول/ سبتمبر الماضي في نيويورك، كانت فرصة فريدة للحكومات لاتخاذ سياسات شجاعة تهدف إلى معالجة ”الكارثة التّعليميّة“ القائمة، ولاتخاذ خيارات عمليّة لتوفير التّعليم الجيّد للجميع بحلول عام 2030. يجب على الدول أن تكون لها الشّجاعة لتعكس العلاقة المحرجة وغير المتكافئة بين الإنفاق العام المخصّص للتّعليم والأموال المخصّصة للتسلح!
يتطلّب السّلام أيضًا اعترافًا عالميًّا بالحرّيّة الدينيّة. إنّه لأمر مقلق أن يوجد أناس يتعرضون للاضطهاد لمجرد أنّهم يعلنون دينهم علانية وهناك العديد من البلدان حيث الحرّيّة الدينيّة محدودة. يعيش حوالي ثلث سكان العالم في هذه الحالة. ومع غياب الحرّيّة الدينيّة، هناك أيضًا الاضطهاد بسبب الدين. لا يسعني إلّا أن أذكر، كما تظهر بعض الإحصاءات، أنّ واحدًا من كلّ سبعة مسيحيّين مضطهد. وفي هذا الصدد، أعرب عن أملي أن يكون للمبعوث الخاصّ الجديد للاتحاد الأوروبي لتعزيز حرّيّة الدين أو المعتقد خارج الاتحاد الأوروبي، أعرب عن أملي أن تُوَفَّر له الموارد والوسائل اللازمة لتنفيذ مهمته على أفضل وجه.
في الوقت نفسه، من المفيد ألّا ننسى أنّ العنف والتّمييز ضدّ المسيحيّين آخذان بالازدياد،وأيضًا في البلدان التي ليس المسيحيون فيها أقليّة. فالحرّيّة الدينية تتعرّض للخطر، إذ يرى المؤمنون أنّ إمكانية التّعبير عن معتقداتهم في سياق الحياة الاجتماعيّة قد تقلّصت، باسم فهم خاطئ للإدماج. الحرّيّة الدينية، التي لا يمكن اختزالها في مجرد حرّيّة العبادة، هي أحد أدنى المتطلبات الضّروريّة للعيش بكرامة، ومن واجب الحكومات أن تحميها وأن تضمن لكلّ شخص، بما يتفق والخير العام، فرصة التّصرف وفقًا لضميره، في مجال الحياة العامّة أيضًا، وفي ممارسة مهنته.
الدين فرصة فعالة للحوار واللقاء بين مختلف الشّعوب والثّقافات، كما يتضح من قرار برلمان تيمور –ليستي (Timor-Leste) الذي وافق بالإجماع على وثيقة الأخوّة الإنسانيّة التي وقَّعتُ عليها مع الإمام الأكبر للأزهر في عام 2019، بما في ذلك برامج المؤسّسات التّعليميّة والثّقافيّة الوطنيّة. وقد اطلعت أيضًاشخصيًّا علىذلك، في الرّحلة التي قمت بها إلى كازاخستان في أيلول/سبتمبر الماضي في مناسبة الاجتماع السابع للقادة الدينيّين في العالم، الذين شاركت معهم بعض اهتمامات عصرنا، وقد لمسنا لمس اليد أنّ الأديان "ليستهيالمشكلة،لكنّهاجزءمنالحلّ،منأجلعيشٍمعًافيهمزيدمنالانسجام" [11]. كانت زيارة البحرين ذات أهمية مماثلة، حيث تمّ اتخاذ خطوة جديدة في المسيرة بين المؤمنين المسيحيّين والمسلمين.
نريد غالبًا أن ننسب النّزاعات المختلفة في الإنسانيّة إلى الدين. قد تكون هناك محاولات مؤسفة بالفعل لاستخدام الدين كأداة لأغراض سياسيّة محضة. لكن هذا مخالف لوجهة النظر المسيحيّة، التي تكشف عن جذور الصّراعات، وأنّها ناتجة عن اختلال في القلب البشري: "مِنباطِنِالنَّاس،مِنقُلوبِهم،تَنبَعِثُالمَقاصِدُالسَّيِّئَةُ" (مرقس 7، 21)، كما يذكّرنا الإنجيل. المسيحيّة تدعو إلى السّلام،وتدعوإلى التّوبة وممارسة الفضيلة.
السّلام في العدل
يتطلّب بناء السّلام السّعي لتحقيق العدل. تمّ استيعاب أزمة عام 1962 بفضل مساهمة رجال ذوي نوايا حسنة، عرفوا كيف يجدونالحلول المناسبة التي منعت التّوتر السّياسيّ من التّحوّل إلى حرب حقيقيّة. كان هذا ممكنًا أيضًا بفضل الاعتقاد بأنّه يمكن حلّ النّزاعات في إطار القانون الدوليّ ومن خلال تلك المنظمات، وخاصّة الأمّم المتّحدة، التي نشأت بعد الحرب العالميّة الثانيّة، والتي طوّرت الدبلوماسيّة متعدّدة الأطراف. يذكر القدّيس يوحنا الثالث والعشرون أنّ: "الأمم المتّحدة حدّدت لنفسها الهدف الأساسي الذي هو الحفاظ على السّلام وتوطيده بين الشّعوب، وتنميّة العلاقات الودية فيما بينها، على أساس مبادئ المساواة والاحترام المتبادل والتّعاون متعدّد الأوجه في جميع مجالات العيش معًا" [12].
لقد أوضح الصّراع الحالي في أوكرانيا الأزمة القائمة في النظام العالميّ التّعددي، وأنّه يحتاج إلى إعادة تفكير عميق، لكي يقدر أن يستجيب بالصّورة المناسبة لتحديّات عصرنا. وهذا يتطلّب إصلاح الهيئات التي تعمل من خلالها، فتكون ممثلة فعلًا لاحتياجات وحساسيات جميع الشّعوب، وتتجنّب الآليات التي تعطي وزنًا أكبر للبعض على حساب الآخرين. لذلك، ولهذا فالمطلوب هو ليس خلق كتل متحالفة، بل خلق فرص للجميع ليكونوا قادرين على المشاركة في الحوار.
معًا يمكن أن يُصنَع خير كثير. لنفكّر في المبادرات الجديرة بالثناء التي تهدف إلى الحدّ من الفقر، أومساعدة المهاجرين، أو مقاومة تغيّر المناخ، أوتعزيز نزع السّلاح النّووي، وتقديم المساعدة الإنسانيّة. لكن في الآونة الأخيرة، مع الأسف، اتسمت المحافل الدوليّة المختلفة بمزيد من الاستقطاب ومحاولات فرض فكر واحد، ما يمنع الحوار ويهمش من يفكّر بصورة مختلفة. هناك خطر الانجراف، الذي يتخذ بشكل متزايد صورة الشّمولية الإيديولوجيّة (totalitarismo ideologico)، التي تعزّز عدم التّسامح تجاه الذين لا يقبلون مواقف ”التّقدم“ المزعومة، والتي يبدو في الواقع أنّها تؤدي إلى تراجع عام للبشريّة، وانتهاك حرّيّة الفكر والضّمير.
علاوة على ذلك، تمّ استخدام موارد أكبر من أيّ وقت مضى لفرض أشكال من الاستعمار الأيديولوجيّ، وخاصّة على أفقر البلدان، وفُرِضَت صلة مباشرة بين تقديم المساعدة الاقتصاديّة وقبول مثل هذه الأيديولوجيات. وقد أدى ذلك إلى توتر الجدل داخل المنظمات الدّوليّة، وحال دون التّبادلات المثمرة، واشتدت الرّغبة في كثير من الأحيان في معالجة القضايا بصورة استقلاليّة، على أساس ميزان القِوى.
من ناحية أخرى، في رحلتي إلى كندا في تموز/يوليو الماضي، تمكّنت من لمس عواقب الاستعمار بصورة مباشرة، لا سيّما عند مقابلة السّكان الأصليّين، الذين عانوا من سياسات الاستيعاب في الماضي. إنّ أيّ محاولة لفرض أشكال فكريّة على ثقافات أخرى لا تنتمي إليها تفتح الطّريق أمام مواجهات مريرة،تؤدي أحيانًا إلى العنف.
من الضّروريّ العودة إلى الحوار، والاستماع المتبادل والتّفاوض، وتعزيز المسؤوليّات المشتركة والتّعاون في البحث عن الخير العام، باسم ذلك التّضامن الذي "يأتي من معرفة أنّنا مسؤولون عن ضعف الآخرين من خلال السّعي لتحقيق مصير مشترك" [13]. المعارضات وحقّ النقض المتبادل يؤدّي فقط إلى مزيد من الانقسامات.
سلام في تضامن
في رسالتي السّنوية لليوم العالمي للسلام، قلت إنّ الجائحة (Covid-19) غرست فينا "الوعي بأنّنا جميعًا بحاجة بعضنا إلى بعض" [14]. دروب السّلام دروب تضامن،لأنّلاأحد يستطيع أن يخلّص نفسه وحده. نحن نعيش في عالم مترابط إلى حد أنّعمل كلّ واحد له تداعيات على الجميع.
وهنا، أودّ أن أسلّط الضّوء على ثلاثة مجالات يظهر فيها الروابط التي تربط بين البشريّة اليوم بقوّة خاصّة، وتتطلّب بصورة خاصّة المزيد من التّضامن.
الأوّل هو الهجرة، التي تظهر في مناطق بأكملها من الأرض. في كثير من الأحيان، المهاجرون هم أشخاصًاهاربون من الحرب والاضطهاد، ويواجهون مخاطر جسيمة. من ناحية أخرى، "لكلّ إنسان الحقّ في حرية التّنقل [...] للهجرة والاستقرار في مجتمعات سياسية أخرى" [15] ويجب أن تكون له إمكانيّة العودة إلى وطنه.
الهجرة قضيّة لا يُقبل فيها ”العمل بترتيب عشوائي“. حتى نفهم ذلك، لننظر فقط إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي أصبح مقبرة كبيرة. تلك الأرواح المحطمة هي إشارة إلى غرق حضارتنا، كما استطعت أن أذكر ذلك في رحلتي إلى مالطا في الرّبيع الماضي. في أوروبا، من الضّروريّ تعزيز الإطار التّنظيميّ، بالموافقة على الميثاق الجديد للهجرة واللجوء، فيستطيع كلّ بلد تنفيذ السّياسات المناسبة لاستقبال المهاجرين ومرافقتهم وتعزيزهم ودمجهم. في الوقت نفسه، يتطلّب التّضامن ألّا يقع ثقل عمليات المساعدة والرّعاية اللازمة للغرقى بصورة كاملةعلى سكان موانئ الاستقبال الرّئيسيّة.
المجال الثّاني هو الاقتصاد والعمل. لقد أبرزت الأزمات المتلاحقة في السّنوات الأخيرة حدود النظام الاقتصادي الذي يهدف إلى تحقيق الربح لعدد قليل، أكثر من اهتمامه لتوفير فرص الرّفاه للكثيرين. إنّه اقتصاد يطلب المال أكثر من إنتاج السّلع المفيدة. وقد أدى ذلك إلى خلق المزيد من الأعمال التّجارية المتعثّرة وأسواق عمل غلب عليها الشّرّ. يجبإعادة الكرامة للمشاريع، وللعمل، ومحاربة جميع أشكال الاستغلال التي تنتهي بمعاملة العمال كسلعة، لأنّه "بدون عمل لائق وبأجر جيّد، لا يصبح الشّباب بالغين حقًا،وتزداد عدم المساواة" [16].
المجال الثّالث هو العناية ببيتنا المشترك. نحن نواجه باستمرار التّغيرات المناخيّة وآثارها الخطيرة على حياة مجموعات سكانية بأكملها، سواء من حيث الدمّار الذي تسبّبه في بعض الأحيان، كما حدث في الباكستان في المناطق التي اجتاحتها الفيضانات، وحيث ازداد تفشي الأمراض المنقولة بالمياه الراكدة. أو في مناطق شاسعة من المحيط الهادئ، حيث سبَّب ارتفاع الحرارة العالميّة أضرارًا لا حصر لها في مجال صيد السّمك، وهو أساس الحياة اليوميّة لسكان بأكملهم. وفي كلّ من الصّومال والقرن الأفريقي، حيث سبَّب الجفاف مجاعة شديدة. وفي الأيام الأخيرة في الولايات المتّحدة، حيث تسبب الصّقيع المفاجئ والشّديد بمقتل أشخاص كثيرين.
في الصّيف الماضيّ، قرّر الكرسي الرّسولي الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتّحدة الإطاريّة بشأن تغيّر المناخ، عازمًا على تقديم دعمه المعنوي لجهود جميع دول التّعاون، وفقًا لمسؤولياتها وقدراتها، على الاستجابة الفعالة والملائمة لمواجهة التّحديات التي يفرضها تغيّر المناخ. من المأمول أنّ الخطوات التي اتخذت في لقاء COP27، واعتماد الخطّة التّنفيذيّةفي شرم الشّيخ (Sharm el-Sheikh Implementation Plan)، بالرّغم من محدوديتها، يمكن أن ترفع وعي البشريّة جمعاء تجاه قضيّة ملّحة لم يعد من الممكن تجنبها. وقد تمّ الاتفاق على أهداف مشجعة في مؤتمّر الأمم المتّحدة الأخير بشأن التّنوع البيولوجي (COP15)، الذي عُقِدَ في مونتريال في الشّهر الماضي.
سلام في الحرّيّة
أخيرًا، يتطلّب بناء السّلام ألّا يكون هناك مكان "للإضرار بحرّيّة وسلامة وأمن الدول الأخرى، بغض النظر عن مساحة أراضيها أو قدرتها الدفاعيّة" [17]. هذا ممكن إن لم تسُدْ ثقافة الظّلم والعدوان في كلّالمجتمعات، والتي تجعلنا نرى في جارنا عدُوًّايجب مقاتلته، بدلًا من أخ أو أخت نرحّب به ونعانقه [18].
يثير القلق تراجع الديمقراطيّة، في أجزاء كثيرة من العالم، وتحديد الحرّيّة التي تسمح بها، هذا بالإضافة إلى محدوديّة كلّ نظام بشري. في كثير من الأحيان، تدفع النساء أو الأقليّات العرقيّة الثّمن، وكذلك التّوازن في مجتمعات بأكملها حيث يؤدّي عدم الارتياح إلى توترات اجتماعيّة، وإلى صدامات مسلّحة.
في مجالات عديدة، يظهر ضعف الديمقراطيّة بتنامي الاستقطاب السّياسيّ والاجتماعيّ، الذي لا يساعد على حلّ المشاكل الملحة للمواطنين. إنّني أفكّر في الأزمات السّياسيّة المختلفة في مختلف بلدان القارة الأمريكيّة، بما تنطوي عليه من توترات وأشكال عنف تؤدّي إلى تفاقم الصّراعات الاجتماعيّة. أفكّر بشكل خاصّ في ما حدث مؤخرًا في البيرو، وما حدث في السّاعات الأخيرة في البرازيل، والوضع المقلق في هايتي، حيث يتمّ أخيرًا اتخاذ بعض الخطوات لمعالجة الأزمة السّياسيّة التي كانت قائمة منذ وقت طويل. من الضّروريّ دائمًا التغلّب على منطق الأحزاب والعمل لبناء الخير العام.
وأتابع عن كثب الوضع في لبنان، الذي ما زال في حالة انتظار لانتخاب رئيس الجمهوريّة الجديد، وآمل أن تلتزم جميع القوىالسّياسيّة بالسماح للبلد بالتعافي من الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ المأساويّ الذي هو فيه.
أصحاب السّعادة، سيداتي، سادتي
من الجميل أن نلتقي مرّة، فقط لنشكر الله القدير على عطاياه التي يمنحنا إياها دائمًا، دون أن نضطّر إلى استعراض المواقف المأساويّة التي ابتليت بها البشريّة. قال يوحنا الثالث والعشرون: "يجوز لنا أن نأمل أن يكتشف الإنسان، باللقاءات والتّفاوض، بشكل أفضل الرّوابط التي تجمع بين الناس، بناءً على إنسانيتهم المشتركة، ويكتشف أيضًا أنّ أحد أعمق احتياجات الإنسانيّةالمشتركة هو: ألّا يسود الخوف بين الشّعوب بل الحبّ: الذي يظهر في التّعاون المخلِص بين الأطراف المتعدّدة، والذي يحمل الخيرات الكثيرة" [19]. وبهذه التّمنيات، أجدّد لكم وللبلدان التي تمثّلونها، أصدق التّمنيات في العام الجديد. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023
[1] دستور رسوليّ، أعلنوا البشارة، 19 آذار/مارس 2022، المادّة 1.
[11] كلمة في افتتاح المؤتمر السّابع لقادة الديانات العالميّة والتّقليديّة، نور سلطان، 14 أيلول/سبتمبر 2022.
[13] رسالة بابوية عامة، كلّنا إخوة - Fratelli tutti، 3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020، 115.
[14] رسالة في مناسبة اليوم العالمي السّادس والخمسين للسّلام، 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2022، 3.
[16] كلمة إلى المشاركين في اللقاء ”اقتصاد فرنسيس“، أسيزي، 24 أيلول/سبتمبر 2022.
[18] راجع كلمة إلى الدبلوماسيّين المُعتَمدين لدى الكرسي الرسولي، 22 آذار/مارس 2013.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana