إلىأهل الفن
«ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جداً» (تك 1: 31).
1. ما من أحد يستطيع أن يكون خيراً منكم، أنتم الفنانين*، الصُّـنّاع النوابغ للجمال، في حدسِ شيء من الباثوس الذي نظر به الله، فجرَ الخليقة، إلى صنع يديه. إن ارتعاشة من هذا الشعور قد انعكست، لمرّات لا حصر لها، في الرنوات التي تأملتم بها، نظيرَ الفنّانين على مرّ العصور، المبهورين والمغمورين اعجاباً بالسلطان الخفي للأصوات والكلمات، والالوان والأشكال، في نتاج إلهامكم، مستشعرين فيه شبه ترجيع لسرّ الابداع الذي شاء الله، المبدع الأوحد لكل شيء، أن يشرككم فيه بمعنى من المعاني.
لهذا السبب، بدا لي أنه ما من كلمات ستكون أنسب من تلك التي في سفر التكوين لكي استهلّ بها الرسالة التي أوجّهها اليكم، انتم الذين اشعر ازاءكم بوشائج تشدني اليكم عبر اختبارات عائدة إلى عهد بعيد طبعت حياتي بطابع لا يمّحى. ان رغبتي، في هذا الكتاب، هي أن اسلك طريق الحوار المثمر بين الكنيسة والفنّانين، وهو حوار لم ينقطع ابداً على مدى الفيْ سنة عبر التاريخ ويَعِدُ بمستقبل زاهر على عتبة الألف الثالث.
إن الأمر، في حقيقته، لا يتعلق بحوار مردّه إلى ظروف تاريخية أو إلى دوافع عملية وحسب، بل بحوار يضرب جذوره في جوهر الاختبار الديني كما في جوهر الابداع الفني على حد سواء. إن الصفحة الأولى من الكتاب المقدس تكاد تصوّر الله وكأنه النموذج المثالي لكل إنسان مُبدع لنتاج: في الإنسان صانعاً تنعكس صورته مبدعاً. هذه العلاقة تجد إيحاءها بجلاء مميّز في اللغة البولونية بفضل التقارب اللفظي بين كلمتيstwórca(المُبدع) وtwórca(الصانع).
ما الفرق بين [كلمتي] «مُبدع» و «صانع»؟ ان مَن يُبدع يمنح الكينونة ذاتها، يستلّ شيئاً من العدم –يقال في اللاتينيةex nihilo sui et subiecti- وهذا، بالمعنى الحصرّي، سراط من العمل يختص بالعليّ القدير وحده. وعلى العكس، فإن الصانع يستعمل شيئاً موجوداً في الأصل وينفحه بالشكل والمعنى. هذه الطريقة في العمل تختصّ بالإنسان بصفته صورة الله. فالكتاب المقدّس، بعد قوله إنّ الله خلق الرجل والمرأة «على صورته» (را. تك 1: 27)، يضيف أنه أوكل اليهما مهمة إخضاع الأرض (را. تك 1: 28). كان هذا في يوم الخلق الأخير (را. تك 1: 28-31). [اما] في الأيام السابقة، فكان الرب قد خلق الكون وكأنه يكاد يضبط إيقاع التطور الكوني. في الأخير، خلق الإنسان، النتيجة النبلى لمقصده، مُديناً له العالم المنظور كمدى شاسع يستطيع أن يعبّر فيه عن مقدرته الابتداعية.
لقد استدعى الله الإنسان إذاً إلى الوجود محيلاً اليه مهمة أن يكون صانعاً. والإنسان، في «الابداع الفني»، يتبدّى أكثر من أي وقت «صورةً لله»، ويحقق هذه المهمة فوق كل شيء من خلال تسوية «المادة» الرائعة لانسانيته، وكذلك عبر ممارسة سلطان خلاّق على الكون المحيط به. إن الفنان الإلهي تعالى ينقل، برفق عطوف، شرارة من حكمته العليّة إلى الفنان البشري، داعياً إياه إلى مشاطرته قدَرَته الابداعية. المقصود هناطبعاً مشاركة لا تمس المسافة اللامتناهية بين المُبدع تعالى والخليقة، كما اكده الكردينال نقولا دو كوزا بقوله: «ان فن الابداع الذي ستبلغه نفس طوباوية ليس اطلاقاً هذا الفن جوهراً الذي هو الله، بل اتصال ومشاركة في هذا الفن»[1].
لذلك فإنه بقدر ما يعي الفنان «الموهبة» التي يمتلكها، يكون مدفوعاً إلى مشاهدة نفسه، كما كل ما أُبدِع، بعينين قادرتين على التأمل والحمد، مُصعِداً إلى الله نشيد تسبحته. هكذا فقط يستطيع أن يفهم ذاته في العمق، ويفهم دعوته ورسالته.
2. ليس الكل مدعواً إلى أن يكون فناناً بالمعنى الحصري للكلمة. مع ذلك، وبناء على عبارة سفر التكوين، فقد أوكِلتْ إلى كل إنسان مهمةُ أن يكون صانعاً لحياته عينها: ينبغي عليه، بمعنى ما، أن يجعل منها نتاجاً فنياً، [بل] تحفة.
من الضروري أن نفهم الفرق، ولكن أيضاً الرابط، بين هذين الجانبين من النشاط الانساني. أما الفرق فبديهي. فالاستعداد [الطبيعي] الذي يكون الإنسان بموجبه مالكاً زمام افعاله ومسؤولاً عن قيمتها الأخلاقية شيء، والاستعداد لأن يكون فناناً، أي أن يعرف كيف يسلك بموجب متطلبات الفن، مقتبلاً بأمانة مبادئه الخصوصية، شيء آخر[2]. لذا فإن الفنان قادر على انتاج أشياء، لكن هذا، في حد ذاته، لا يفصح أي شيء بعد عن استعداداته الاخلاقية. فالمسألة ههنا ليست في ان يسوّي ذاته، في أن يشكّل شخصيته الخاصة، بل حصراً في أن يثمّر قدراته الابداعية، عبر اعطاء شكل جمالي للأفكار التي يذتهنها البال.
لكن إذا كان الفرق بين هذين الاستعدادين، الأخلاقي والفني، جوهرياً، فإن الرابطة بينهما لا تقل أهمية. إنهما يتكايفان بعمق. إن الفنان، إذ يسوّي عملاً [فنياً]، إنما يعبّر حكماً عن ذاته إلى حد أن نتاجه يشكّل انعكاساً خصوصياً لكيانه، لـِ ما هو ولـِ كيف هو. ونحن نعثر في التاريخ البشري على اثباتات لذلك لا حصر لها. فالفنان، عندما يُخرج تحفة، لا يبث الحياة في نتاجه وحسب، بل انه عبرها، وبمعنى من المعاني، يبوح ايضاً بشخصيته عينها. في الفن يجد بعداً جديداً ووسيلة تعبير خارقة عن نموه الروحي. الفنان يتكلم ويتواصل مع الآخرين عبر الأعمال التي ينجزها. لذا فإن تاريخ الفن ليس تاريخاً للإعمال وحسب، بل هو تاريخ الناس ايضاً. ان الأعمال الفنية تنطق بواضعيها، انها المدخل إلى معرفة عمق أعماق كيانهم، وهي تنمّ عن الاسهام الابتكاري الذي ادّوه في تاريخ الثقافة.
3. كتب شاعر بولوني معروف هو قبريان نورفيد: «ان الجمال هو لِيبعثَ على الحميّة في العمل،/ والعمل هو للنهوض من جديد»[3]. إن مبحث الجمال موافِق بنوع خاص لمقالة في الفن. ولقد سبق لهذا المبحث أن طفا عندما ابرزتُ النظرة الراضية لله إزاء الخليقة.إن الله، إذ لاحظ أن ما ابدعه كان حسناً، رأى أيضاً أنه كان جميلاً[4]. إن العلاقة بين حسن وجميل تبعث على افتكارات شائقة. الجمال هو، بمعنى ما، التعبير المرئي عن الخير، تماماً كما أن الخير هو الشرط الماورائي للجمال. هذا ما فهمه اليونانيون جيداً، هم الذين، بدمجهم معاً هذين المفهومين، نحتوا لفظة تضمهما سويا: « Kalokagathía »، أي الجمال–الخير. عن هذا الموضوع كتب أفلاطوان: «إن الفضيلة الخاصة بالخير جاءت تعتصم بطبيعة الجمال»[5].
إن الإنسان، إذ يقيم علائقه مع الكينونة، ومع الحقيقة، ومع الخير، إنما يقيمها بعيشه وأفعاله. الفنان يعيش علاقة مميّزة مع الجمال. وبمعنى صحيح جداً، يمكن القول أن الجمال هو دعوة يدعوه الله اليها بوهبه «القريحة الفنية». وهذه القريحة هي أيضاً، دون شك، برسم التثمير وفق منطق مثل الوزنات* الانجيلي (را. متى 25: 14-30).
هنا نلامس نقطة جوهرية. إن من يشعر في قرارة نفسه بهذا النوع من الشرارة الإلهية التي هي الدعوة الفنيّة–دعوة الشاعر، أو الكاتب، أو الرسّام، أو النحات، أو المعماري، أو الموسيقي، أو الممثل… _ يتملكه في الوقت عينه شعور الواجب بعدم التفريط بهذه القريحة، بل بتطويرها لوضعها في خدمة القريب والإنسانية جمعاء.
4.
فالواقع هو أن المجتمع في حاجة إلى فنانين كما هو في حاجة إلى علماء، وفنيين، وعمال، وأشخاص من كل المهن، وشهود للإيمان، ومعلمين، وآباء وامهات، يضمنون نمو الشخص وتطور الجماعة عبر هذا الشكل السامي من الفن الذي هو «فن التربية». للفنانين موقعهم المميّز في المشهد الثقافي الواسع لكل امة. وعندما ينقادون لالهامهم بالذات لدى انجازهم اعمالاً قيّمة فعلاً وجميلة فعلاً، فإنهم لا يثرون التراث الثقافي لكل امة وللإنسانية جمعاء وحسب، بل يؤدون ايضاً خدمة اجتماعية كفيئة لفائدة الخير العام.
أن الدعوة المختلفة لكل فنان، اذ تعيّن اطار خدمته، تبرز الواجبات التي ينبغي ان يضطلع بها، والعمل الشاق الذي يتوجب عليه أن يُخضع نفسه له، والمسؤولية التي يتحتّم عليه مواجهتها. إن فناناً يعي كل ذلك يعرف أيضاً أنّ عليه أن يعمل دون أن يَدَعَ البحث عن مجد باطل او فورة الشعبية السهلة يسيطران عليه، وبدرجة أَوْلى امكانية ادخال المنفعة الشخصية في حساباته. هناك إذاً مناقبية، بل حتى «روحانية»، في الخدمة الفنية تساهم، على طريقتها، في حياة شعب وفي نهضته. إلى هذا بالذات يبدو أن قبريان نورفيد شاء أن يلمّح عندما أكّد قائلاً: «إن الجمال هو لِيبعثَ على الحميّة في العمل،/ والعمل هو للنهوض من جديد».
5. إن الشريعة في العهد القديم تحرّم صراحة تمثيل الله اللامنظور والفائق الوصف بواسطة «صورة منحوتة أو مسبوكة» (تث 27 : 15)، لأن الله يعلو كل تمثّل مادي: «أنا هو مَن هو» (خر 3: 14). غير أن ابن الله بعينه قد جعل ذاته منظوراً في سرّ التجسد: «فلما تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة» (غل 4:4). لقد أصار الله ذاته بشراً في يسوع المسيح، الذي بات بذلك «نقطة المركز التي ينبغي التموضع بالنسبة اليها من اجل فهم أُلغوزة الوجود البشري، والعالم المخلوق، والله ذاته»[6].
هذا التجلي الجوهري لـِ «الله–السرّ» يشكل تشجيعاً وتحدياّ للمسيحيين، بما في ذلك في مجال الابداع الفني. ولقد نتج عنه ازدهار للجمال استمد نسغه من هنالك بالضبط، من سرّ التجسّد. فابن الله، إذ أصار ذاته بشراً، قد أدخل في تاريخ الانسانية كل الثراء الإنجيلي في الحقيقة والخير، وبه كشف ايضاً بعداً جديداً للجمال: إنّ البشرى الإنجيلية ممتلئة به كليّاً.
بذلك أمسى الكتاب المقدّس بمثابة «قاموس شاسع» (بول كلوديل) و «اطلس ايقونوغرافي» (مارك شاغال) نهل منه الفن والثقافة المسيحيان. العهد القديم ذاته، عند تأويله في ضوء الجديد، ظهر كمنبع الهام لا ينضب. فمن خلال روايات الخليقة، والخطيئة، والطوفان، ودورة الآباء الأولين، واحداث الخروج، وصولاً إلى شتى الوقائع والشخصيات في تاريخ الخلاص، ألهب النص الكتابي مخيلة الشعراء، والموسيقيين، وكتاب المسرح والسينما. إن صورة مثل صورة ايوب، على سبيل المثال، في اشكاليتها الشائكة والراهنة ابداً حول التألّم، ما زالت تبعث على الاهتمام الفلسفي والاهتمام الادبي والفني في آن واحد. وماذا نقول في العهد الجديد؟ من الميلاد إلى الجلجلة، من التجلي إلى القيامة، وصولاً إلى الأحداث المنقولة في أعمال الرسل او المُحدَسة في الرؤيا من منظور اسخاتولوجي، تجسدت الكلمة الببلية، لمرات لا تحصى، صورة أو موسيقى أو شعراً، موحية بلغة الفن سرّ «الكلمة الذي صار جسداً».
كل هذا يشكل، في تاريخ الثقافة، فصلاً واسعاً في الإيمان والجمال. وانهم المؤمنون على الأخص من استفادوا منه لخير اختبارهم الصَلَويّ والحياتي. وبالنسبة إلى كثيرين بينهم، في حقبات من الأَلفَبَة الضعيفة، وصلت التعابير المصوّرة للكتاب المقدس إلى حدّ تشكيل وسائل كاتيشيتية عملية[7].
لكن الإنجازات الفنية المستوحاة من الأسفار المقدّسة تبقى، في نظر الجميع، مؤمنين وغير مؤمنين، انعكاساً للسرّ الذي لا يسبر غوره، السرّ الذي يلف العالم ساكناً فيه.
6. وبالفعل، فإن كل حدس فني أصيل يذهب إلى ما وراء المدركات الحسيّة ويسعى، عبر اكتناه الواقع، إلى تأويل سرّه المخبوء. إنه ينبجس من عمق أعماق الروح الإنسانية، حيث يترافق التوق إلى ايلاء معنى لحياتنا مع الإدراك الخاطف للجمال وللوحدة الخفيّة للأشياء. إنه لـمُشتَرَكٌ بين جميع الفنانين ذاك الاختبار للفسحة المستحيلة الرأب بين صنع يديهم، مهما كان موّفقاً، وبين الكمال الساطع للجمال المدرك في حُميّا اللحظة المبدعة: إن ما يوفّقون في التعبير عنه عبر ما يرسمون، وما ينحتون، وما يبدعون، ما هو سوى بصيص من الإشراق الذي جاز خاطرهم للحظات معدودات.
هذا ما لا يَعجَبُ له المؤمن: فهو يعرف أنّ لـجّة من نور قد انفتحت للحظة امامه، هذه اللجّة التي تجد في الله منبعها البدئي. هل يجب أن نعجب اذا وجدت النفس ذاتها شبه مسحوقة بها إلى حدّ أنها لا تعود تدري كيف تعبّر عن ذاتها إلا بتمتمات؟ ما من أحد هو أكثر استعداداً من الفنان الحقيقي للاعتراف بحدوده ولتبني كلمات بولس الرسول القائلة بأن الله «لا يسكن في هياكل صنعتها ايدي البشر»، وكذلك بأنه «لا يجب أن نحسب اللاهوت شبيهاً بالذهب أو الفضة أو الحجر، المشغولة بفن الأنسان وعبقريته (أع 17: 24-29). إذا كان الواقع العميق للأشياء، أصلاً، يلبث دوماً في «ما وراء» قدرات الاكتناه البشري، فكم بالحري الله في أعماق سرّه الذي لا يسبر غوره!
أما المعرفة الايمانية، فهي ذات طبيعة مختلفة تماماً: إنها تفترض لقاء شخصياً مع الله بيسوع المسيح. إلا أن هذه المعرفة تستطيع، هي أيضاً، أن تجني فائدة من الحدس الفني. إن أعمال الأخ انجليكو، مثلاً، هي مثال بليغ لتأمل جمالي وجد تسامياً في الايمان. ولا تقلّ عنها مغزى، في هذا السياق، [تلك] اللاودا [= نشيد التسبيح] الانخطافية التي يستعيدها القديس فرنسيس الاسيزي مرتين في الكارتولا [= الشرعة] التي حرّرها بعد اقتباله ستيغماتا [= علامات الصَّلْب] المسيح [والتي تقول]: «انت جمال…انت جمال!»[8]. ويعلّق القديس بونافنتورا: «كان يتأمل، في الأشياء الجميلة، البهيّ تعالى، وكان، باقتفائه الآثار المطبوعة في المخلوقات، يلاحق الحبيب تعالى اينما كان»[9].
ثمة مقاربة مماثلة نعثر عليها في الروحانية الشرقية، حيث يوصَفُ المسيح بـِ «البهي تعالى الفائق كل الكائنات البشرية الفانية جمالاً»[10]. ويشرح مكاريوس الكبير الجمال الممجَّد والمحرِّر للقائم من الموت بهذه الكلمات: «إن الروح التي تنوّرت كلياً بالجمال الفائق الوصف للمجد الساطع لوجه المسيح قد امتلأت بالروح القدس…انها عين، انها نور، انها وجه وحسب»[11].
كل شكل فني اصيل هو، عل طريقته، منفَذٌ إلى الواقع الأعمق في الإنسان والعالم. إنه، بهذه الصفة، يشكل مقاربة جزيلة القيمة لأفق الايمان يجد فيها الوجود البشري تعبيره الكامل. ولهذا السبب بالذات لم يكن ممكناً الا يثير التمام الإنجيلي للحقيقة منذ البداية اهتمام الفنانين، الحسّاسين فطرةً إزاء جميع تجليات الجمال الباطن للواقع.
7. إن الفن الذي عثرت عليه المسيحية في بداياتها كان الثمرة الناضجة للعالم الكلاسيكي، وكان معبِّراً عن القوانين الجمالية لهذا العالم وفي الوقت عينه ناقلاً لقِيَمه. كان الإيمان يوجب على المسيحيين، في مجال الفن كما في مجالَيْ الحياة والفكر، وقفة تمييز [للصواب من الخطأ] لم تكن تسمح بتقبّل تلقائي لهذا التراث [الكلاسيكي]. وهكذا بدأ الفن، المسيحيُّ الايحاء، عَمَلَه في الخفاء، في ترابط وثيق مع حاجة المؤمنين آنذاك إلى استنباط دلالات للتعبير عن أسرار الايمان انطلاقاً من الأسفار المقدّسة، وفي الوقت عينه [إلى اجتراح] «شيفرة رمزية» يستطيعون من خلالها أن يتعرفوا بعضاً إلى بعض ويتثبّتوا من هوياتهم المتبادلة، لا سيما في أزمنة الاضطهاد الصعبة. مَن منا لا يذكر هذه الرموز التي كانت ايضاً اللمحات الأولى لفن تصويري وتجسيمي؟ السمكة، الأرغفة، الراعي، [كلها] كانت توحي السرّ، وقد صارت، على نحو غير محسوس أو يكاد، الصيغة الأولية لفن جديد.
عندما مُنح المسيحيون، بموجب منشور قسطنطين، الحرية الكاملة في التعبير عن أنفسهم، أصبح الفن واسطة مميّزة للاعراب عن الإيمان. وبدأت تنمو، في أماكن عدة، بازيليكات مُهيبة استُرجعت فيها القوانين المعمارية في الوثنية القديمة وأُخضعت في الوقت عينه لمتطلبات الدين الجديد. كيف لا نذكّر على الأقل بالبازيليك القديمة للقديس بطرس وببازيليك القديس يوحنا اللاتراني، اللتين شُيِّدتا على نفقة قسطنطين بنفسه؟ أو، في ما يختص براوئع الفن البيزنطي، بالـ هاجيا صوفيا في القسطنطينية، التي أرادها يوستنيانوس؟
وبينما كان فن العمارة يرسم الحيّز المقدس، كانت الحاجة إلى تأمّل السرّ وعرضه بشكل بديهي على الناس البسطاء تفضي شيئاً فشيئاً إلى التعابير الأولى للفن التصويري والنحتي. في الوقت عينه ظهرت اللمحات الأولى لفن في الكلام والنغم؛ وإذا كان اغسطينوس قد أدرج، ضمن المباحث الكثيرة لأعماله، واحداً عنوانه في الموسيقى (De musica)، فإن هيلاريوس، وامبروسيوس، وبرودنسيوس، وأفرام السرياني، وغريغوريوس النيصي، وبولينوس النولي، من جملة أسماء كثيرة، جعلوا أنفسهم الدعاة الأوائل لشعر مسيحي كثيراً ما يبلغ شأناً عالياً لا لاهوتياً وحسب، بل أدبياً أيضاً. كان برنامجهم الشعري يبرز أشكالا موروثة من الكلاسيكيين، لكنه كان ينهل من النسغ الصافي في الإنجيل، كما صرح بذلك بحق الشاعر النولي القديس قائلاً: «إن فننا الأوحد هو الإيمان والمسيح هو ترنيمنا»[12]. من جهته، أرسى غريغوريوس الكبير بعد فترة، عند تقميشه الانتيفوناريوم، بُداءات التطور العضوي لتلك الموسيقى المقدّسة الفائقة الابتكار التي حملت اسمه. إن الترنيم الغريغوري، بتناغيمه الملهَمَة، سيصبح على مرّ العصور التعبير اللحني النموذجي عن إيمان الكنيسة خلال الاحتفال الليترجي بالأقداس. وهكذا كان «الجمال» يقترن بـِ «الخير» حتى تنتقل النفوس، عبر دروب الفن، من المحسوس إلى الأبديّ.
لم يخلُ الأمر من أوقات صعبة على مدّ هذا الطريق. فلقد عرفت الحقبة القديمة، وتحديداً في مسألة التمثُّل [الفني] للسرّ المسيحي، جدلاً قاسياً جداً دخل التاريخ تحت اسم «مشاحنة تحطيم الايقونات». كانت الصور المقدّسة، التي انتشرت على نطاق واسع في التقويّات الشعبية، مدار صراع عنيف. وكان المجمع الذي انعقد في نيقية عام 787 حدثاً تاريخياً لا من الوجهة الايمانية فحسب، بل من الوجهة الثقافية أيضاً، إذ حكم بمشروعيّة الصور وبالشعائر التي تحفّ بها. ومن أجل تسوية النـزاع، لجأ الأساقفة إلى حجّة دامغة: سرّ التجسد. فإذا كان ابن الله قد ولج عالم الوقائع المحسوسة، مقيماً بناسوته جسراً بين المنظور واللامنظور، فمن السائغ التفكير، على نحو مماثل، أنّ تمثيلاً للسرّ يمكن توظيفه، في سياق منطق الآيات، كايحاء محسوس للسرّ. الايقونة ليست مكرَّمة لذاتها، بل هي تحيل إلى الموضوع الذي تمثّل[13].
8. خلال القرون اللاحقة، شهد العالم تطوراً كبيراً للفن المسيحي. في الشرق، تابع فن الايقونة ازدهاره. ويبقى هذا الفن مرتبطاً بقوانين لاهوتية وجمالية محددّة، وهو مؤسَّس على اقتناع مفاده أن الايقونة هي سرّ طقسي بمعنى ما: فهي، على مثال ما يتحقق في الأسرار الطقسية، تستحضر سرّ التجسّد بوجه أو بآخر من وجوهه. ولهذا السبب بالذات يمكن ايلاؤها التقدير، بالأخصّ، داخل كنيسة، حيث السُّرُج التي تتّقد وتلقي في الغَبَش ترجّعات ضوئية لا حصر لها. عن هذا الموضوع يكتب بافل فلورنسكي: «الذهب، الفظّ، الثقيل، التافه في سطوع وضح النهار، يستنعش تحت الوميض المرتعش لسراج أو شمعة، لأنه يتلألأ عندئذٍ بألوف مؤلّفة من الالتماعات التي تلقي بأضوائها هنا وهناك وتنبىء بأنوار أخرى، غير أرضية، تملأ الفضاء السماوي»[14].
في الغرب، ينطلق الفنانون من وجهات نظر شديدة التنوّع وفقاً للاقتناعات الراسخة الموجودة في البيئة الثقافية لعصرهم. لقد اغتنى التراث الفنّي على مرّ العصور، وهو ينطوي على نماء زاخر لأعمال في الفن المقدّس تشهد على إلهام رفيع وتملأ حتى المراقب الحالي اعجاباً. إن الصروح الدينية الكبيرة تحتل مركز الصدارة؛ فطابعها العملاني يتزاوج دوماً مع العبقرية، وهذه تدع حس الجمال وحدس السرّ يلهمانها. ولقد نتجت عن ذلك اساليب معروفة جيداً في تاريخ الفن. إن قوة فن العمارة الرومانيسكي وبساطته، المعبّر عنهما في الكاتدرائيات والأديار، سيتطوران تدريجياً لاعطاء الأشكال الممشوقة والروائع في الفن الغوطيّ. وراء هذه الأشكال لا يكمن نبوغ فنان وحسب، بل روح شعب [كامل]. في تلاعبات النور والظل، في الأشكال الطاغية تارة والممشوقة طوراً، تدخل بالطبع اعتبارات في التقنية البنيانية، ولكن أيضاً توترات مختصة باختبار الله، السر الذي يبعث على «الرهبة» و«الانبهار». كيف السبيل إلى اختصار القدرة الابداعية لعصر القرون الوسطى المسيحي الطويل في ملامح معدودة ولمختلف الاشكال الفنية؟ ثقافة بأمّها وأبيها قد تشرّبت الإنجيل، مع أنها بقيت ضمن الحدود الحاضرة دوماً للبعد الإنساني، وفي الوقت الذي كان الفكر اللاهوتي ينتهي إلى الخلاصة [اللاهوتية] للقديس توما [الاكويني]، كان فن الكنائس يحمل المادة على الانضباط في وقفة تعبّد للسرّ، بينما كان شاعر رائع هو دانتي اليغييري قادراً على نظم «القصيدة المقدسة،/ حيث السماء والأرض أَضفتا لمساتهما»[15]، كما كان هو نفسه يصف الكوميديا الإلهية.
9. إن المناخ الثقافي الطيّب الذي نبت منه الازدهار الفني الفائق في الحقبة الإنسانوية وعصر النهضة كان له أيضاً تأثير معبّر على الطريقة التي تناول بها فنانو هذه المرحلة الموضوعات الدينية. بطبيعة الحال، كان الهامهم متنوعاً بتنوّع أساليبهم، على الأقل في ما يتعلق بالكبار بينهم. إلا أنه ليس في نيتي أن اذكرّكم بهذه الاشياء التي تعرفونها جيداً، انتم الفنانون. ما اوده بالأحرى، وانا اكتب اليكم من القصر الرسولي، هذا الكنـز الحقيقي من التحف الذي قد لا يضاهيه مثيل في العالم، هو أن اجعل نفسي لسان حال الفنانين العظماء الذين افصحوا ههنا عن ثراء عبقريتهم، المجبولة في الغالب بعمق روحي عظيم. من هنا ينطق ميكلانجلو، الذي استجمع، إذا جاز التعبير، كامل مأساة العالم وسره في الكابيلا سستينا، منذ الخليقة إلى الدينونة الأخيرة، معطياً لله الآب وجهاً، وللمسيح الديّان وجهاً، ووجهاً للإنسان الذي يمشي طريقه بعناء منذ البدايات وحتى انقضاء الزمان. من هنا ينطق نبوغ رافايلّو الرهيف والعميق الذي يُظهر، عبر تنوع لوحاته، لا سيما في [لوحة] «المجادلة» الموجودة في «قاعة التوقيع»، سرّ الافصاح عن الثالوث الإلهي الذي يجعل ذاته، في الافخارستيا، رفيق الانسان ويسلّط نوره على تساؤلات الفكر البشريّ وانتظاراته. من هنا، من البازيليك المهيبة المكرّسة لأمير الرسل، من صف الأعمدة الذي ينفرع عنها كذراعين مفتوحتين لاستقبال البشرية، ما زال ينطق برامانتينو، وبرنيني، وبوروميني، ومادرنو، اذا اكتفينا بذكر اكثرهم عظمة؛ إنهم يؤدون، من خلال الأشكال التجسيمية، معنى السرّ الذي يجعل من الكنيسة جماعة جامعة، حَفِيّة، وأمّاً ورفيقةَ دربٍ لكل إنسان يسعى في طلب الله.
في هذه الكوكبة الفذّة، وجد الفن المقدّس تعبيراً ذا طاقة استثنائية، مدركاً ذرى ذات قيمة خالدة جمالياً ودينياً على حدّ سواء. ما كان يميّزه دائماً بازدياد هو اهتمام متنامٍ بالإنسان، وبالعالم، وبواقع التاريخ، وذلك بدفع من الحقبة الانسانوية وعصر النهضة، ثم من الاتجاهات الثقافية والعلمية التي تلتهما. هذه المبالاة لم تكن في حدّ ذاتها، بأي حال من الأحوال، خطراً على الايمان المسيحي المتمحور حول سرّ التجسد وتالياً حول إعلاء الله لقَدْر الإنسان. إن الفنانين العظام الذين ذكرتهم لتوّي يظهرون لنا ذلك جيداً. يكفي أن نتذكّر كيف يعبّر ميكلانجلو، في لوحاته ومنحوتاته، عن جمال الجسم البشري[16].
فضلاً عن ذلك، وحتى في المناخ الجديد لهذه القرون الاخيرة حيث يبدو أن جزءاً من المجتمع بات لا يبالي بالايمان، لم يوقف الفن الديني اندفاعته ابداً. هذه الملاحظة تتأكد إذا تأملنا الآن، بعد الفنون التشكيلية الوصفية، في التطور الكبير الذي عرفته، في الفترة نفسها، الموسيقى نفسها، المنظومة لتلبية متطلبات الليترجيا او المرتبطة حصراً بمواضيع دينية. فبقطع النظر عن وفرة وفيرة من الفنانين الذين تفرغوا للموسيقى المقدسة إلى حد بعيد–كيف لنا ألاّ نذكر على الأقل أمثال بيـير لويجي دا بالسترينا، أو رولان ده لاسوس، أو توماس لويس ده فكتوريا؟–نعرف أن كثيرين من المؤلفين الموسيقيين العظام–من هاندل إلى باخ، من موتسارت إلى شوبرت، من بيتهوفن إلى برليوز، من ليست إلى فردي–قد أعطونا أعمالاً عظيمة الإلهام في هذا المجال.
10. مع ذلك، فمن الصحيح أنه، في مرحلة الأزمنة الحديثة، بدأ يتطور تدريجياً، بالتوازي مع هذه الانسانوية المسيحية التي بقيت حاملة لتعابير ثقافية وفنيّة ذات قيمة، شكل من الانسانوية يتميّز بغياب الله وغالباً بمعارضة له. هذا المناخ أدى أحياناً إلى انفصال معيّن بين عالم الفن وعالم الايمان، أقلّه بمعنى أن فنانين لم يعودوا يبدون الاهتمام ذاته للمواضيع الدينية.
غير أنكم تعرفون أن الكنيسة ما انفكّت ابداً تحافظ على تقدير كبير للفن كفن. فالفن، إذا كان أصيلاً، هو، حتى في ما يتخطى أشكاله الدينية الأخصّ، في قرابة عميقة مع عالم الايمان إلى حد أنه يبقى مقيماً نوعاً من الجسر مع الاختبار الديني حتى عندما تبتعد الثقافة إلى حدّ كبير عن الكنيسة. ولأن الفن هو بحث عن الجمال، وثمرة مخيّلة تتخطى الواقع اليومي، فإنه، بطبيعته، نوع من الدعوة إلى السرّ. حتى عندما يتقصّى الفنان أحلك بواطن الروح أو أكدر مظاهر الشرّ، فإنه يجعل نفسه، نوعاً ما، صوت ارتقابٍ لفداء ارتقاباً عميماً.
لذلك نفهم لماذا تتمسك الكنيسة تمسكاً خاصاً بالحوار مع الفن ولماذا ترغب في أن يقوم، في زماننا، حلف جديد مع الفنانين، كما تمناه سلفي الموقّر بولس السادس في الخطاب المؤثِّر الذي وجّهه إلى الفنانين أثناء لقائه الخاص بهم يوم السابع من أيار 1964 في الكابيلا سستينا[17]. إن الكنيسة ترغب في أن يبعث تعاون كهذا على قيام «ابيفانيّا» جديدة للجمال في زماننا وأن يأتي بردود ملائمة على متطلبات الجماعة المسيحية.
11. لقد أرسى المجمع الفاتيكاني الثاني أسس العلاقات المتجدّدة بين الكنيسة والثقافة، مما يستتبع نتائج مباشرة على عالم الفن. إنها علاقات تحكمها الصداقة والانفتاح والحوار. في الدستور الرعائي فرح ورجاء، شدّد الآباء المجمعيون على «الأهمية الكبيرة» للآداب والفنون في حياة الإنسان: «فهي تجتهد في فهم الطابع الخاص بالإنسان، وقضاياه، واختباره في محاولات معرفة ذاته والسير بها نحو الكمال، ومعرفة العالم والسير به نحو الكمال: إنها تجدّ في أن تدرك على نحو أفضل موقعه في التاريخ والكون، وأن تلقي الضوء على أتراح الإنسان وأفراحه، على حاجاته وطاقاته، وأن تضع الخطوط الكبرى لمصير إنساني أفضل»[18].
انطلاقاً من هذه الأسس، حيّا الآباء المجمعيون الفنانين في اختتام أعمال المجمع موجّهين اليهم نداء بهذه العبارات: «هذا العالم الذي نعيش فيه هو في حاجة إلى جمال حتى لا يغرق في اللارجاء. الجمال، كما الحق، هو ما يزرع الفرح في قلوب البشر، هو هذه الثمرة الثمينة التي تقوى على بِلاء الزمن، والتي توحّد الأجيال وتجعلها متواصلة في الروعة»[19]. وتحديداً بهذه الروح العميقة الاحترام للجمال كان الدستور الرعائي المجمع المقدّس حول الليترجيا قد ذكّر بالمودّة القديمة التي تكنّها الكنيسة للفن. ولدى كلام هذه الوثيقة على الفن المقدّس تخصيصاً، «ذروة» الفن الديني، لم تتوانَ في اعتبار عمل الفنانين «خدمة كهنوتيّة نبيلة» عندما تكون اعمالهم قادرة، بمعنى ما، على ترجيع البهاء اللامتناهي لله وتوجيه بال الجميع اليه تعالى[20]. كذلك، وبفضل إسهام الفنانين، «تتبدّى معرفة الله على نحو أفضل وتصبح الكرازة الإنجيلية أسهل منالاً على عقول البشر»[21]. في ضوء ما تقدّم قوله، لا يفاجئنا تأكيد الأب ماري دومينيك شوني(Chenu)، هو الذي يرى أن مؤرّخ اللاهوت سيكون عمله مبتوراً إن لم يولِ الإنجازات الفنيّة–أكانت أدبية أو تجسيمية–حق قدرها، وهي انجازات تشكل، على طريقتها، «لا تصاوير جمالية وحسب، بل "مواضع" لاهوتية حقيقية»[22].
12. من أجل نشر البشارة التي عهد المسيح بها إلى الكنيسة، فإن الكنيسة في حاجة إلى الفن. وبالفعل، فإن عليها أن تجعل عالم الروح، وعالم اللامنظور، وعالم الله، محسوساً، لا بل، قدر المستطاع، أخّاذاً. لذا وجب عليها أن تعبّر بصياغات ذات معنى عمّا هو، في حد ذاته، فائق الوصف. بَيد أن للفن طاقة خاصّة به كلياً تؤهله لإدراك هذا أو ذاك من أوجه البشارة وترجمته الواناً أو اشكالاً أو انغاماً توطّد حدس من يرى ومن يسمع. وكل هذا دون حرمان البشارة عينها من قيمتها العلوية أو من هالة السرّ التي لها.
الكنيسة في حاجة، تخصيصاً، إلى من هم قادرون على إنجاز كل هذا على الصعيدين الادبي والتشكيلي الوصفي، مستخدمين لذلك الامكانيات اللامتناهية للصور وقيمتها الرمزية. المسيح بذاته، في كرازته، استعان إلى حد بعيد بالصور، وذلك في تناغم كامل مع اختياره أن يصبح هو ذاته، بالتجسد، أيقونة الله اللامنظور.
لكن الكنيسة في حاجة أيضاً إلى موسيقيين. كم من المقطوعات المقدسة كانت، على مرّ العصور، من تآليف أشخاص تشرّبوا بعمق معنى السرّ! أعداد لا تُحصى من المؤمنين غذّت ايمانها بفضل الترانيم التي اندفقت من قلوب مؤمنين آخرين وأصبحت جزءاً لا يجتزأ من الليترجيا، أو على الأقل عوناً ممتازاً على الاحتفال بها احتفالاً لائقاً. من خلال التراتيل، يُختبر الايمان كصرخة تنفجر بالفرح والحبّ، كارتقاب واثق للتدخل الخلاصي لله.
الكنيسة في حاجة إلى مهندسين معماريين لأنه يَلزَمُها فسحات لجمع الشعب المسيحي والاحتفال باسرار الخلاص. بعد الدمار المريع في الحرب العالمية الأخيرة وتنامي المدن المتروبولات، تولّد جيل جديد من المعماريين في ضوء متطلبات الشعائر المسيحية، مبرهناً بذلك على الطاقة الإلهامية للموضوع الديني حتى بالنظر إلى القوانين المعمارية في زماننا. فغالباً ما تشاد كنائس هي أماكن صلاة وأعمال فنية اصيلة في الوقت عينه.
13. إذاً، الكنيسة في حاجة إلى الفن. لكن هل يمكن القول إنّ الفن في حاجة إلى الكنيسة؟ ربما بدا السؤال استفزازياً. إلا أنه، في الحقيقة، سؤال مشروع وعميق إذا ما فهمناه بمعناه الصحيح. الفنان هو [في] بحث دائم عن المعنى العميق للأشياء، ورغبته الحارّة هي التوصل إلى التعبير عن العالم الفائق الوصف. كيف له عندئذ أن يتعامى عن هذا المنبع الإلهامي الكبير الذي يمكن أن يكونه له الدين، هذا الذي هو بمثابة وطن الروح. أليس الدين هو ما تطرح في نطاقه الأسئلة الشخصية الأهم وتُنشد الأجوبة الوجودية النهائية؟
واقع الحال هو أن الدينيات هي أكثر المواضيع التي يطرقها الفنانون في جميع العصور. والكنيسة بقيت دوماً تستعين بطاقتهم الابداعيّة لتأويل البشارة الإنجيلية وتطبيقها العملي في حياة الجماعة المسيحية. هذا التعاون كان منبع اثراء روحي متبادل. ولقد استفادت الكنيسة منه، في الأخير، لفهم الإنسان وصورته الاصيلة وحقيقته. وهذا يظهر أيضاً الرابطة الخاصة الموجودة بين الفن والوحي المسيحي. هذا لا يعني أن العبقرية البشرية لم تجد ايضاً الهامات محفّزة في بيئات دينية أخرى. يكفي أن نذكّر بفن العصور القديمة، لا سيما بالفنّين اليوناني والروماني، وبفن الحضارات الشرقية الأقدم والمزدهر حتى الآن. إلا أنه يبقى صحيحاً أن المسيحية، بحكم عقيدتها المركزية في تجسد كلمة الله، تقدم للفنان عالماً غنياً على نحو مخصوص بالدوافع الملهِمة. كم سيكون إفقاراً للفن أن يُتَخلّى عن المنبع الإنجيلي الذي لا ينضب!
14. بهذه الرسالة اتوجه اليكم، يا فناني العالم أجمع، لاؤكد لكم تقديري ولأُساهم في إعادة تطوير تعاون أجدى بين الفن والكنيسة. إنني أدعوكم إلى إعادة اكتشاف عمق البعد الروحي والديني الذي كان على الدوام ميزة الفن في أسمى تعابيره. انني ومن هذا المنظور اتوجه بالنداء اليكم، يا فناني الكلمة المكتوبة والمنطوقة، والمسرح والموسيقى، والفنون التشكيلية وتقنيات الاتصال الأكثر حداثة. وبندائي أخصكم انتم، أيها الفنانون المسيحيون: إلى كلّ منكم أودّ أن اذكّر بأن الحلف القائم ابداً بين الإنجيل والفن يستتبع، أبعد من الضرورات الوظيفية، الدعوة إلى التوَغل، بحدس ابداعي، في سرّ الله المتجسّد، وفي الوقت عينه في سرّ الإنسان.
ما من إنسان، بمعنى ما، يعرف نفسه. المسيح لا يفصح عن الله وحسب، بل إنه «يكشف الإنسانَ لذاته كشفاً كاملاً»[23]. في المسيح صالح الله العالم. جميع المؤمنين مدعوون إلى تأدية هذه الشهادة؛ إلا أنه يعود إليكم، أنتم أيها الرجال والنساء الذين وقفتم حياتكم للفن، أن تقولوا بثراء عبقريتكم إنه في المسيح تمّ افتداء العالم: الإنسان افتدي، الجسد افتدي، الخليقة كلها افتُدِيَتْ، تلك التي كتب فيها القديس بولس أنها «تنتظر بلهفٍ [تكشُّف] الوحي في أبناء الله» (روم 8: 19). إنها تنتظر [تكشُّف] الوحي في أبناء الله حتى من خلال الفن وفي الفن. تلك هي مهمتكم. إنّ الإنسانية على مدى الأزمنة–بما فيها إنسانية اليوم–تنتظر، عبر الاحتكاك بالأعمال الفنية، أن تتنوّر حول مسارها وحول مصيرها.
15. في الكنيسة يرتفع مراراً [هذا] الابتهال إلى الروح القدس:Veni, Creator Spiritus«تعال، أيها الروح المبدع،/افتقد روح مؤمنيك/ إملأ، بنعمة من فوق، قلوب من أبدعت»[24].
إن الروح القدس، «الريح الناسمة» (« souffle »)، [كما يفيد المعنى الحرفي للّفظة العبرية الأصل] رُوَح، هو الذي سبق لسفر التكوين أن ألمح اليه قائلاً: «كانت الأرض غامرة ومستبحرة وظلام على وجه الغمر وريح الله تهبّ على وجه الماء»* (تك 1: 2)، ثمة قرابة، وايَّما قرابة، بين اللفظتين [الفرنسيتين]« souffle-expiration » [بمعنى التنسّم، أي التنفّس، نحو الخارج] و« inspiration »[بمعنى التنسّم نحو الداخل: واللفظة عينها تعني أيضاً الإلهام]. الروح [القدس الناسم] هو الفنان الخفي في الكون. أود أن اتمنى لجميع الفنانين، في افق الألف الثالث، أن يكون لهم أن يقتبلوا موهبة الإلهامات الابداعية، التي يتجذّر فيها كل نتاج فني أصيل، اقتبالاً فيّاضاً.
أيها الفنانون الأعزاء، كثيرة هي الحوافز، الداخلية والخارجية، التي تستطيع إلهام قريحتكم، وهذا ما تعرفونه جيداً. إلا أن كل إلهام أصيل يختزن في ذاته بعض ارتعاشة من هذه «النَّسَمة» التي ملأ بها الروح المبدع عمل الخليقة منذ البدايات. إن النسمة الإلهية للروح المبدع، إذ تسود النواميس الخفيّة التي تحكم الكون، تأتي لملاقاة عبقرية الإنسان وتحفّز طاقته الابداعية. إنها تلتقيه بنوع من الإشراق الداخلي الذي يوحّد بين التوجّه نحو الخير والتوجّه نحو الجمال، ويوقظ فيه طاقات النفس والقلب، مؤهّلاً إياه لاذتهان الفكرة ولسكبها شكلاً في عمل فني. عندئذ نتكلم بحق، حتى ولو بالمماثلة، على «لحظات نعمة»، لأن الإنسان يمكنه أن يعيش اختباراً ما للمطلق يتعالاه.
16. على عتبة الألف الثالث، اتمنى لكم جميعاً، أيها الفنانون الاعزاء، أن تمسّكم هذه الالهامات الابداعية بشدّة مميّزة. عسى الجمال الذي تنقلونه إلى أجيال الغد أن يكون أهلاً لأن يبعث فيهم الروعة. فأمام الطابع المقدّس للحياة والإنسان، أمام روائع الكون، تبقى الوقفة المناسبة الوحيدة هي وقفة الروعة.
من هذه الروعة يمكن أن تطلع الحميّة التي يتكلّم عليها نورفيد في القصيدة التي استندتُ إليها في البداية. إن أشخاص اليوم وأشخاص الغد هم في حاجة إلى هذه الحميّة لمجابهة التحديات الحاسمة التي تلوح في الأفق ولتخطيها. بفضلها ستتمكن الإنسانية، بعد كل كبوة، من النهوض من جديد ومتابعة المسيرة. إنّه لَبِهذا المعنى قيل بحدس عميق إنّ «الجمال سيخلّص العالم»[25].
الجمال هو مفتاح السرّ والمحيل إلى العلويّات. إنه دعوة إلى التنعم بالحياة وإلى الحلم بالمستقبل. لذا فإن جمال الأشياء المخلوقة لا يمكن أن يمثل إرضاء كافياً، بل يبعث على هذا الحنين الدفين إلى الله والذي عرف عاشق للجمال كالقديس اغسطينوس كيف يعبّر عنه بكلمات لا تُضاهى: «آجلاً جداً احببتك، يا بهاءً فائق القِدَم وفائق الجِدّة، آجلاً جداً أحببتك»[26].
عسى دروبكم المتعددة، يا فناني العالم، أن تقودكم جميعاً إلى المحيط الإلهي اللامتناهي في الجمال حيث الروعة تصبح إعجاباً، ونشوة، وغبطة لا توصف!
عسى سرّ المسيح القائم من الموت، الذي تتأمله الكنيسة بغبطة في هذه الأيام، أن يوجهكم ويلهمكم!
ولتصحبكم العذراء القديسة، «الكلية البهاء»، هي التي صوّرها فنانون وفنانون، والتي يتأملها دانتي الشهير في روائع الفردوس «جمالاً يبهج عيون القديسين الآخرين»[27].
«من الكاوُس [=اللانظام] يطلع عالم الروح». انطلاقاً من [هذه] الكلمات التي كتبها آدم ميكيفيتش في فترة عاصفة للغاية من حياة الوطن البولوني[28]، أعرب عن تمنٍّ لكم: أَن يسهم فنكم في توطيد جمال أصيل يتيح، في شبه ترجيع لروح الله، أن تتمجّد المادة، فتَفتَحَ النفوس على معنى الأبَد!
مع أحر تمنياتي القلبية!
عن الفاتيكان، في الرابع من نيسان 1999، يوم قيامة الربّ.
يوحنا بولس الثاني
الفنان، صورة الله المبدع...................................3
دعوة الفنان الخاصّة.........................................6
الدعوة الفنية في خدمة الجمال.............................8
الفنان والخير العام...........................................9
الفن إزاء سرّ الكلمة المتجسد............................10
بين الإنجيل والفن، تحالف مثمر..........................13
البدايات......................................................16
القرون الوسطى............................................19
[الحقبة] الإنسانوية و[عصر] النهضة..................21
نحو تجدّد الحوار...........................................24
بروح المجمع الفاتيكاني الثاني...........................25
الكنيسة في حاجة إلى الفن................................27
هل الفن في حاجة إلى الكنيسة؟..........................29
نداء إلى الفنانين............................................30
الروح المبدع والإلهام الفني..............................32
«البهاء» الذي يخلّص.....................................33
[1]Dialogue du jeu de la boule، الكتابII، 102، باريس 1985، ص 154.
[2]إن المزايا الأخلاقية، ومن بينها التعقل على الأخصّ، تتيح للإنسان أن يسلك بتناغم مع مقياس الخير والشر الاخلاقي بحسب الـrecta ratioagibilium(المقياس العادل للتصرفات). أما الفن، فهو على العكس معرّف في الفلسفة بالـrecta ratio factibilium(المقياس العادلللمُنجَزات).
[3]Promethidion : Bogumil, vv. 185-186 : Pisma wybrane,فرصوفيا 1968، المجلد الثاني، ص 216.
[4]عن هذا المنحى عبّرت الترجمة اليونانية السبعينية جيداً عندما أدت كلمة« tōb »(حسن) في النص العبري بكلمة« kalón »(جميل).
[5]Le Philèbe, 65 A..
[6]يوحنا بولس الثاني، الرسـالة الحبرية العامة الإيمـان والعقــل (Fides et Ratio)(14 أيلول 1998)، فقرة 80: أعمال الكرسي الرسولي 91 (1999)، ص 67؛La Documentation Catholique95 (1998)، ص 930.
[7]هذا المبدأ التربوي أعلنه بسلطانٍ القديس غيريغوريوس الكبير في رسالة عام 599 إلى اسقف مرسيليا سيرينو قائلاً: «إن الرسم مستعمل في الكنائس لأن الاميين يقرأون، على الأقل عندما يعاينون الجدران، ما لا يستطيعون أن يستجلوه في المخطوطات»:
Lettres, IX, 209 : CCL 140 A, 1714.
[8]Lodi di Dio altissimo, vv. 7 et 10 : Fonti Francescane, n. 261, Padove 1982, p. 177.
[9]Legenda maior, IX, 1 : Fonti Francescane, n. 1162, l.c.,
p. 911.
[10].Enkomia de l’Orthós du Grand Samedi Saint
[11]العظة الأولى، 2: الآباء اليونان 34، 451.
[12]«At nobis ars una fides et musica Christus» : Carmen, 20, 31 : CCL 203, 144.
[13]راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسوليةDuodecimum sæculum(4 كانون الأول1987)، الفقرتان 8-9: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1999)، ص 247-249:La Documentation Catholique
85 (1988)، ص 285-286.
[14]La prospettiva rovesciata ed altri scritti, Rome 1984, p. 63.
[15]الفردوس، 25، 1-2.
[16]راجع يوحنا بولس الثاني، ميمر القداس المحتفل به في ختام ترميم جدرانيات ميكلانجلو في الكابيلا سستينا (8 نيسان 1994):Insegnamenti 17 /1 (1994)، ص 899-904.
[17]راجع أعمال الكرسي الرسـولي 56 (1964)، ص 438-444:
La Documentation Catholique 61 (1964)، الأعمدة 683-690.
[18]الفقرة 62.
[19]رسالة إلى الفنانين (8 كانون الأول 1965): أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 13؛La Documentation Catholique 62 (1966)، العمود 55.
[20]راجع الفقرة 122.
[21]المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي حول الكنيسة في عالم اليوم فرح ورجاء، الفقرة 62.
[22]La théologie du XIIe siècle، تصدير المؤلّف للطبعة الايطالية الجديدة، ميلانو 1992، ص 9.
[23]المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي حول الكنيسة في عالم اليوم فرح ورجاء، الفقرة 22.
[24]Hymne des Vêpres de la Pentecôte.
* عن ترجمة من القرن العاشر لسعديّا بن يوسف الفيّومي تستعمل فيها لفظة «ريح الله» بدل «روح الله» كما في الترجمات الحالية (المترجم).
[25]ف. دوستويفسكي، الاحمق، الجزء الثالث، الفصل الخامس، ميلانو 1998، ص 645.
[26] « Sero te amavi ! Pulchritudo tam antiquam et tam nova, sero te amavi ! »، الاعترافات 10، 27:CCL 27, Oeuvres I, Paris 1998, p. 1006.
[27]الفردوس، 31، 134-135.
[28] Oda do mlodości (Ode à la jeunesse), v. 69 : Wybór poezji، فروكلاف 1986، المجلد الأول، ص 63.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana